اثنتي عشرة فتاة، بَدَوْنَ كحبَّات اللؤلؤ المنثورة المتلألئة، وهن واقفات بأرواب التخرج الفضفاضة الواسعة· والمناسبة كانت حفل التخرج الذي أقامته دار الطالبات بالمنيا لمن قضين فيها سني تغرب الدراسة الجامعية·
وأُتيحت الفرصة لكل منهن لإلقاء كلمة، فأفَضْن جميعهن في الشكر لصاحب الإحسان والمعروف؛ الرب يسوع المسيح، الذي منذ الوجود قد رعى، ولم يَزَلْ يرعى· فالأم قد تنسى الرضيع والرب لا ينسى· ومَنْ عليه يعتمدْ رجاهُ لا يخَزى·
ولفت نظري "سارة" وهي تحكي اختبارها عن رعاية الرب لها، ودموعها التي انسابت على خديها تؤكِّد صدق ما قالته:
لن أنسى ما حييت أول يوم حضرت فيه إلى المنيا منذ أربع سنوات· كانت معي أمي· استلمت معي غرفتي، ورتَّبت معي دولابي· وعندما أَزَف ميعاد قطارها، سِِرت معها إلى المحطة ونحن لا نقوى على التفوّه بكلمة واحدة· وعندما وصل القطار، طبعت أمي قُبلة سريعة على وجهي، ودلفت مُسرعة إلى القطار قبل أن تغلبها دموعها· وبعدها وجدت نفسي وحيدة في مدينة غريبة· لم يَعُــد أبـي بجانبي· أمي بعيدة عني· الإخوة والأخوات الذين تربَّيت وسطهم لم يعودوا على مقربة مني·· بدأ الخوف والاضطراب يتسربان إلى قلبي· وبدأ الشعور بالغربة والوحشة، بالوحدة والانفراد يمتلكني· وخُيِّل لي أن هناك مَنْ يصرخ في أذني ليرعبني قائلاً إنني صرت شاةٍ بلا راعي·· أسرعت الخُطى إلى الدار، دخلت إلى غرفتي لأفعل ما عوَّدتني عليه أمي ونصحتني أن أفعله دائمًا؛ دخلت لأسكب نفسي أمام الرب·
ألقيت بنفسي في أحضان الرب، وبكيت طويلاً أمامه، وأخبرته بكل ما يعتمل في نفسي من خوف وقلق، وبكل ما يُحيّرني ويُربكني· صارحته بكل شيء بلا تحفظ، ثم هدَّأتُ وسكَّتُ نفسي كفطيم نحو أمه (مزمور131: 2)· وانتظرت ليتكلَّم إليَّ الرب ليطمئنني· فإذ بي أسمع صوتًا يرنّ في أعماق نفسي وقلبي، صوتًا يخترق أعماق كياني قلبًا وتفكيرًا، صوتًا شجيًا، رقيقًا وعذبًا، «صوت حبيبي» (نشيد2: 8)، صوت الراعي المُحب الذي أستطيع أن أميزه عن صوت الغريب (يوحنا10: 4 ،5)·
سمعته قائلاً: «ها أنا مَعكِ»·· «ها أنا مَعكِ وأحفظكِ··· لأني لا أترككِ» (تكوين28: 15)· لقد تركتِ أبيكِ، وحُرمتِ مِنْ حضن أمكِ، ولكن «ها أنا مَعك»· إن كنتِ قد انفصلتِ عن أصدقائكِ، فأنا معكِ، الصديق الألزق من الأخ·· إن كنتِ سائرة في طريق موحش مجهول؛ فأنا معكِ، وطوال سني غربتكِ سأكون معكِ·
«ها أنا معكِ»·· «ها أنا معكِ»·· لا شيء يشغلني عنكِ·· عندما يحيط بكِ الأشرار، أنا معكِ، لأدافع عنكِ·· في وقت الخطر سأكون بجانبك·· ومهما كان طريقك محفوفًا بالمخاطر، لكِ أن تسيري فيه بقلب فَرِح مُبتهج مملوء بالسلام والهدوء «لأني معكِ»·· إنني أستطيع أن أمدّكِ بمعونة غير مُنتظرة في كل لحظة تحتاجين فيها إلى عون·
لقد شعرت سارة في الحال أن الرب يسوع قريب منها جدًا· إنه يقف إلى جوارها للحماية والحراسة، وليضمن لها السلامة· وكان هذا كفيل بأن يمحو في الحال مخاوفها وكل الأفكار المُقلقة، فوجدت عزاءً وطمانًا لقلبها الواجف· بل وامتلأ قلبها بالسلام والفرح في راعيها الصالح الذي لم يسمح للانزعاج والقلق أن يسيطرا على فكرها· و«ها أنا معكِ» الخارجة من فمه عملت عملها في نفسها وفي قلبها، بل وشعرت أن الأذرع الأبدية تحتضنها·
ثم فتحت سارة كتابها المقدس لتقرأ كعادتها· وكان الفصل الكتابي بحسب برنامجها اليومي للقراءة هو إرميا31·· وما أروع ما تكلم به الرب لقلبها من خلال كلمات هذا الأصحاح، وبصفة خاصة إرميا31: 9 «بالبكاء يأتون، وبالتضرعات أقودهم· أُسيِّرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها· لأني صرتُ لإسرائيل أبًا»· وبدا وكأن شخصًا يتحدّث إليها بصوت عميق، يبعث الطمأنينة، قائلاً لها: "إن هذا الوعد لكِ"·
وبجرأة وثقة الإيمان، أمسكت سارة بالقلم لتضع دائرة حول كلمة لإسرائيل وتستبدلها في كتابها باسمها: "سارة"· وقرأت "لأني صِرتُ لسارة أبًا" ·· وإذ بكيانها كله يتعطر بالشعور بأن الله القدير هو أبوها الذي يرعاها ويهتم بها·· وانبهرت الفتاة بهذا الحق العجيب الذي بدا وكأنها اكتشفته جديدًا: إن الله الخالق العظيم المرهوب هو أبوها·
نعم· كان يحق لها أن تنبهر متعجبة، إذ يقول الرسول يوحنا: «انظروا (أي تعجبوا) أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله!» (1يوحنا3: 1)· ولقد تعطّر كيانها كله بالشعور بأن الله القدير الذي يكسو الزهور ويُحيي الطيور هو أبوها الذي يعلم كل ما تحتاج إليه (متى6: 31 ،32) و«كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه» (مزمور103: 13)·
وفي ذلك اليوم، أمسكت سارة بقلمها، وسجّلت هذه الخواطر:
لما يكون بابا بعيد لما أتقيد بكل قيد |
|
لما أحس روحي شريد ولما تدخل نفسي الحديد |
محتاجاك جنبي يا أبويا الفريد |
يمكن مش عارفة لماما وصول جوايا جرح ومش عارفة أقول |
|
عايزة أتكلم ولساني مغلول حاسة بحزن فيَّ يجول |
محتاجة فعلاً أحس بحبك نسّيني نفسي ووجهني لحضنك واديني أكون قريبة لقلبك |
|
ده أنت على الصليب بذلت ابنك والفت نظري لروعة شخصك أهمس وأقول تسمعني ودنك |
وسلامك العجيب توهبني منك ربي وإلهي، أنا سارة بنتك |
وشهدت سارة أمام الجميع أنه طوال سني تغربها للدراسة، كان الرب معها دائمًا، لم يتركها ولا غاب عنها لحظة واحدة، وأن سلامه الذي يفوق كل عقل حفظ قلبها وفكرها فيه دائمًا، فعاشت في رضا وشكر وتسليم، متمتعة بعنايته الدائمة لها·
عزيزي: هل الله أبيك؟!
هل تمتعت بهذه النعمة الغنية المتفاضلة؟!