تَرْتِيُوسُ كاتب رسالة رومية
«تَرْتِيُوسُ» اسم لاتيني معناه ”الثالث“، وكان الرومان يستخدمون الأعداد أحيانًا كأسماء أعلام، وخاصة بين العبيد. ولكن لا يهم أن يكون الشخص له مكانة بارزة في المجتمع أو أن يكون من العبيد، والله لا يهتم بالفوارق الاجتماعية؛ فالعبيد والسادة، الأغنياء والفقراء، كلهم أمامه واحد. كما أننا «في المسيح يسوع» وبالتالي فإننا «جميعًا واحد» مع زوال جميع الفوارق سواء قومية أو اجتماعية أو طبيعية. ففي المسيح يسوع تختفي جميع الفوارق بالنسبة لمسألة القبول لدى الله. فاليهودي غير مُفضَّل على الأممي، ولا أفضلية كذلك للحُرِّ على العبد، ولا يُعطى أيضًا الرجل مقامًا أرفع من المرأة (غلاطية 3: 26-28). وهذا طبعًا يشير إلى مقامنا السماوي، وليس إلى حياتنا وحالتنا وخدمتنا ومسؤوليتنا الأرضية، فالله يؤكِّد الفروقات بين الرجل والمرأة في الحياة اليومية وفي خدمة الكنيسة العلنية، بغير شك (1كورنثوس 14: 34، 35).
وتَرْتِيُوسُ هو اسم الشخص المسيحي الذي أملاه الرسول بولس رسالته إلى مؤمني رومية. وقد كانت عادة الرسول أن يُملي رسائله على كاتب، ثم يُضيف بيده شخصيًا العبارات الختامية «علامة في كلِّ رسالةٍ» (2تسالونيكي 3: 17؛ 1كورنثوس 16: 21؛ غلاطية 6: 16؛ كولوسي 4: 18).
ويبدو أن تَرْتِيُوسُ فاضت مشاعره وعواطفه تجاه إخوته المؤمنين في رومية، وتثقّل أن يُرسل تحياته الشخصية إليهم «في الرب»، والذي فيه - تبارك اسمه - يتحد المؤمنون معًا مهما باعدت بينهم المسافات. ويبدو أيضًا أن الرسول بولس سُرَّ، مَسوقًا من الروح القدس، ألا تنتهي الرسالة دون أن يذكر فضل الرّجُل الذي أُمليت عليه الرسالة وكتبها، وهكذا نقرأ «أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة، أُسَلِّمُ عليكم في الرب» (رومية 16: 22).
لم يكن تَرْتِيُوسُ مبشرًا شهيرًا أو مُعلّمًا قديرًا أو خادمًا متجوّلاً عظيمًا في كنيسة الله، فمن المرجَّح أنه كان من مؤمني كورنثوس، وأنه كان مستقِرًا بالمدينة ولم يذهب مع الرسول بولس إلى أماكن أخرى، وإلا لَوَرَد اسمه بين أسماء المرافقين لبولس في الرسائل الأخرى أو في سفر الأعمال. ومن المرجَّح أيضًا أنه كان شخصًا فقيرًا من جهة أمور الزمان، ولكن «اسمعوا يا إخوتي الأحباء: أَمَا اختار الله فُقراء هذا العالم أغنياءَ في الإيمان، وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يُحبونه؟» (يعقوب 2: 5 اقرأ أيضًا من فضلك 1كورنثوس 1: 26-29). وعندما احتاج الرسول - أثناء إقامته في كورنثوس - لمن يُمليه رسالة رومية، تَقَدَّم تَرْتِيُوسُ لكي يقوم بالخدمة المطلوبة فقط، ليس أكثر ولا أقل، ورضي وقنع بمجرد ملء الخانة المطلوبة وتقديم الخدمة اللازمة، بِغَضِّ النظر عن نوعها، والقيام بالعمل الذي عينته له يد الرب.
ويجب على كل مؤمن أن يخدم الرب بنيَّه صالحة، بكل فرح وإخلاص، متيقنًا بأن الرب سيكافئ كل عمل صالح يُعمل كما للرب وليس للناس، ولا فرق سواء كان الإنسان عبدًا أم حُرًّا، فقيرًا أم غنيًا، فالرب يلاحظ كل الأعمال التي تُعمل له، وسيكافئ كل عامل بحسب أمانته «عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب، عبدًا كان أم حُرًا» (أفسس 6: 8).
ومع أن العمل الذي قام به تَرْتِيُوسُ مُحدَّد وضئيل، إلا أنه من المؤكد أن أبسط عمل نُقدِّمه للرب بدوافع نقية مُخلِصة، سيكون له تقديره مع أعظم الأعمال وأسماها وأمجدها على وجه الإطلاق. فقد يكون في آخر صفوف الخدمة من يقوم بالعمل الذي لا يمكن أن تقدِّره الأرض، ولكن تعرفه السماء جيدَ المعرفة. وهكذا وصل إلينا اسم تَرْتِيُوسُ مُدَّونًا بقلم الوحي المقدّس، وكذا خدمته الثمينة قد سُجِّلت في الكتاب المقدس، فأصبح يقرأها الملايين من النفوس. فيا للكرامة! ويا للشرف! ويا للمكافأة!
أيها الأحباء: مَن ذا الذي يحتقر الأمور الصغيرة؟! ليعطنا الرب نعمة لندرك أن قيمة أية خدمة تتوقف على تقدير الله لها، وأنّ أقل خدمة وأبسط خدمة تستحق منا كل اهتمام وتكريس الفكر والقلب، ما دام الله هو غرضها، وهو الذي وضعها على قلوبنا. والخدمة العظيمة ليست هي التي تظهر لها المظاهر العظيمة هنا، لأن الله كثيرًا ما يسمح أن لا تكون لخدمتنا نتائج ظاهرة لكي يختبر إن كنا راضين أن نسير بالاختفاء أم لا، ولكن الخدمة العظيمة هي أن نجد سرورنا في إرضاء سيدنا. وباب هذه الخدمة مفتوح أمام كل واحد منا: الصغير والضعيف كالقوي وصاحب المواهب.
لقد كان تَرْتِيُوسُ مُعِينًا للرسول بولس في كتابة رسالة رومية، وهو ما يُذكرنا بكلمة «أعوانًا» التي يشع منها جمال ناتج عن مضمونها غير المحدود، والتي ترد بين مجموعة المواهب المتنوعة وترتيبات الخدمة في كنيسة الله (1كورنثوس 12: 28).
«أعوانًا» هذه الكلمة تعني مجالاً واسعًا للخدمة المسيحية، دافعها محبة الرب ومحبة النفوس. فكثيرًا ما نجد أخًا لا يستطيع الاشتراك في الخدمات العامة التي تحتاج إلى مواهب خاصة، مثل الكرازة والوعظ والتعليم، فهو ليس بالكارز أو الواعظ أو المعلِّم، لكنه مهتم ومشغول بعمل هؤلاء وبخدماتهم. لم يفكِّر قَطّ في أن يقف على منصة أو منبر، لكنه كثيرًا ما تطيب القلوب للطريقة التي بها يهتم بأبسط الأمور التي تحتاج إليها النفوس الغالية على المسيح، نظير إعداد المؤتمرات والفرص الروحية والاهتمام بأصغر التفاصيل فيها لتتهيأ للنفوس فرصة الاستماع لكلمة الله. كثيرًا ما تراه مسؤولاً عن المطبوعات، أو وسائل المواصلات، أو المقاعد في القاعات، أو دعوة النفوس للحضور، أو قيادتهم إلى مكان الاجتماع، ومجالستهم، وتقديم الكتب المقدسة أو كتب الترانيم إليهم، وجعلهم يشعرون بالراحة والسرور.
قلبه مُفعَم بالحب وملتهب للعمل، روحه مشرقة وفكره متحرّر من كل غيرة وحب للذات. هو دائمًا مستعد لأن يعمل أي شيء، وكل شيء، من أجل عمل الرب ولتقديم معونة حقيقية للخادم وللخدمة وللمخدومين. لا تقف الصعوبات أمامه في سبيل الخدمة، بل على العكس تُظهِر نشاطًا كامنًا فيه. نعم، إنه يحبّ المسيح وشعبه وخدّامه وهو مهتمّ ببشارة الإنجيل وخلاص النفوس وتقدُّم شعب الله. ليس مشغولاً بذاته بل يبتهج بأن يرى عمل الرب ناجحًا بغضّ النظر عمن يعمله.
عزيزي المؤمن: إن لكل واحد منا مكانًا خاصًا ليملأه وعملاً ليعمله. قد لا تكون مُبشِّرًا أو مُعلِّمًا ولا موهبة لك في الكلام، ولكن ألا تعلم - أيها الأخ - أنك تستطيع أن تتعاون مع المُبشِّر أو المُعلِّم بطرقٍ كثيرةٍ، وأنه يمكنك أن تمسك بيده وتنعش روحه وتُشدّد قلبه بوسائل بسيطة لا حصر لها؟ ولا شك أن ذلك يُشبع قلب الرب يسوع الذي سيُعطي المكافأة في يوم قريب. فليت الرب يُكثر بيننا هؤلاء الأعوان نظير «ترتيوس كاتب رسالة رومية».