كانت طِلبتهم الدائمة لكل من يقابلهم هي: “صلّوا لأجلنا لكي يعطينا الرب ابنًا”. وأخيرًا، وبعد صبر وطول انتظار، أعطاهم الرب ابنًا، وسرَّهم الأمر سرورًا عظيمًا. ولأنه الابن الوحيد في البيت، راح الأبوان يُسرفان في تدليله، فكانت إشاراته أوامر نافذة، وطلباته أحكام صادرة. ولكي لا يفوته شيء من الأشياء، حرص أبواه على الذهاب به إلى مدارس الأحد، ولما كبر انتقل إلى اجتماع الشباب الناشئ.
اعتاد “ميشو” على عدم إطاعة والديه، لأنهما يسامحانه على أيّ خطإ يرتكبه بمجرد أن يعتذر ويقول: “أنا آسف”، أو حتى إذا لاحظ الأبوان أنه ينوي أن يقولها، فيغفرا له فورًا، بل وينعم بأحضان أبيه الدافئة، وقبلات أمه الساخنة، وكأنَّ الولد أحرز نجاحًا باهرًا، أو قُل نصرًا عظيمًا؛ وينسى الوالدان كل أسى بمجرد أن يسمعا من ابنهما الكلمة السحرية “أنا آسف”!
كان الأب حريصًا أن ُيسمع “ميشو” كل يوم الوصايا والمفروض أن يفعله والمفروض أن لا يفعله، فكان يقول له: “كذا وكذا وصايا الله؛ إن كسرتها يغضب الله. وهذه يا ولدي قوانين الدولة؛ أن كسرتها تغضب الحكومة”، ويستمر الأب شارحًا وناصحًا ابنه المدلَّل، رغم علمه في قرارة نفسه أنه سيّكسرها جميعًا طالما كانت “أنا آسف” ترضي الأب وتسعد الأم.
اعتاد الولد أن يأتي، قبل أن يخلد إلى نومه، ويقول لوالديه: “أنا أقدم اعتذاري على أخطاء هذا اليوم”؛ فيسامحانه بل ويلاطفانه. وفي ذات مساء قدم “ميشو” إعتذارًا غريبًا لأبويه، إذ قال لهما: “أقدم اعتذاري عن خطايا اليوم وعن خطايا الغد أيضًا”. وإذ بالأم تغرقه بالقبلات وهي تقول له: “الغد لم يأتِ بعد يا ولدي، فكيف تعترف بذنب لم ترتكبه؟”.
كان لميشو أصدقاء، ويومًا ما تجرّأ أن يصحبهم جميعًا إلى بيته لكي يحتفلوا معه بعيد ميلاده، مستغلاً غياب والديه اللذان ذهبا ليشتريا له بعض الهدايا والمستلزمات لهذه المناسبة. وحوَّل “ميشو” وأصدقاؤه البيت إلى صالة للرقص والطرب، بل وشرب المشروبات الكحولية. وفجأة عاد الوالدان وهما في ذهول شديد، ظانين في بادئ الأمر أنهما أخطأا العنوان. وبينما كان الأب يفتح الباب، إذ بابنه يستقبله صافعًا إيّاه على وجهه، جاذبًا أمه من شعرها، وسط جو من الموسيقى الصاخبة والضحك الهستيري الصادر من أصدقائه. فما كان من الأب إلا أن شمَّر عن ساعديه ضاربًا و طاردًا هؤلاء الصبية من بيته. ثم أغلق الباب بعنٍف وغضٍب، غير مصدِّقٍ أن كل هذا يحدث في بيته. بعدها ارتمى “ميشو” على الأرض وقد غرقت عيناه بالدموع وهو يصرخ من شدة الألم الذي ألمَّ برأسه؛ ورغم كل ما حدث أسرعت أمه نحوه كالعادة وطوَّقته بذراعيها، وامتزجت قبلاتها بدموعها، وظل الأب واقفًا بعيدًا وهو في ذهول، ينظر إلى المقاعد المقلوبة والأكواب المسكوبة وجو الفوضى الذي أصاب البيت، ويتأمل بحزن كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد. بعدها أفاق “ميشو” من فعلته، وكعادته قدَّم الاعتذار لوالديه. لكن الحقيقة المُرّة إن هذا العمل لم يكن آخر مرة، بل كان بداية لمغامرات أفظع و شرور أشنع، يعفّ القلم أن يخطّها. وعاد الأبوان من جديد يطلبان بنفوس مُرّة، من الخدام الذين كانوا يصلون من أجل الولد، أن يصلوا لأجلهم من جديد لكي يأخذهم الرب من الحياة، أو أن يأخذ ابنهم المارد هذا؛ فالحياة معه صارت مستحيلة.
صديقي الشاب.. ربما أزعجتك تصرفات “ميشو”، ولكن الحقيقة أن أمثال “ميشو” كثيرون، ويسببون أحزانًا وآلامًا لوالديهم بل وأحيانًا تقضي عليهم. قد يكون التدليل الزائد وسوء التربية احد الأسباب، ولكن يقينًا أن دوافع أبوي “ميشو” كانت مُخلصة ونقية. لكننا نتفق، على ما أعتقد، أنك لا تختلف معي في أن اعتذار “ميشو” هو اعتذار غير مقبول؟ ولكن السؤال الأكثر أهمية هو: هل مثل هذا الإعتذار يمكن أن نقدِّمه للرب؟
القارئ العزيز.. كثيرون يصلّون ويعتذرون، ثمّ للشرور والنجاسة يعودون؛ وهذا الفعل دائمًا يكررون، بل وعليه يتعودون ويدمنون. لذلك نحن نسألك: ما نوع توبتك؟ هل هو مجرد اعتذار نظير هذا الشاب التعس، ثم تعود إلى الإنغماس في الشر ووحل الخطية؟ إن هذه ليست توبة حقيقية، بل هذا يذكرنا بالقوم الذين قال عنهم الرسول بطرس: «قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه، وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة» (2بطرس2: 22). فالتوبة الحقيقية هي ترك القذارة وعدم العودة إليها، «ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتُب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران» (إشعياء55: 7).
تذكر يا صديقي أن السامرية عندما التقت بالمسيح، في الحال تركت جرّتها (يوحنا4: 28) ولم تَعُد إليها. وكذلك بارتيماوس الأعمى طرح رداءه (مرقس10: 50). بل ولعازر الميت الذي أقامه المسيح بعد أربعة أيام من دفنه، يترك القبر حيث الظلمة والأكفان والأحزان ولا يعود إليه، ولو لزيارة عابرة؛ تُرى هل تسمعه يومًا يقول: “يا قبر، أين أنت؟ لقد اشتقت إلى لياليك!”؟ وهل تظن أنك تراه يومًا يحمل فراشًا، ويذهب إليه، لكي يقضي ليلة فيه؟! هذا مستحيل. لذلك يقول الكتاب: «حاشا. نحن الذين مُتنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟» (رومية6: 2).
فهل تمتّعت بالتوبة الحقيقية، وتركت الماضي، وكرهت الخطية؟ ليتك تكون جادًا في توبتك، فخطايانا لا نكتمها، بل نقرّ بها، ونتركها فنُرحَم. وليت هذه الكلمات تعبِّر عن صلاتنا و توبتنا الصادقة:
توبة بلا رجوع |
|
عودة من بعد جوع |
راحتي حضن يسوع |
لن أقدم اعتذار، ثم أرجع لها
لن أعود للجِرار، فأنا تركتها |
|
إنما هذا قرار، يبقى إلى المنتهى
أو لكورة المرار، فلقد ودّعتها |
كرهتها أبغضته |
إن عيشة القبور، بئس عيشة مثلها
إنما أحلى حياةٌ، المسيحُ فجرُه |
|
في المجون والفجور، حيث لا نور لها
السرور والحبور، قلبي مفتونٌ به |
ربحتها أحببته |