بيني وبينك

جلس الشيخ ووجهه يمتلئ بِشْرًا متهلّلاً بلقاء صديقه الشاب بعد فراق طال أمده، وبادر بالحديث قائلاً:

 إيهٍ يا صاحبي؛ أخبرني أين غبت عني؟

 صدّقني لست أدري!  لكن الوقت مني يجري.

 عمومًا يسعدني أن أقابلك من جديد.

 وأنا يسعدني أكثر، لا سيما أني في حاجة أن أتحدَّث إليك.

 كلي آذان مصغية يا صاحب.

 لعلك تعلم أني عندما قَبِلت الربَّ مخلِّصًا شخصيًا لي، منذ زمن، أحببت الرب وأحببت أموره؛ كالكتاب المقدس والصلاة وحضور الاجتماعات، وكنت ملتهبًا في التمتع بهذه الأمور الرائعة.  ولكني الآن، بعد مرور الوقت فترت رغبتي في هذه الأمور.  أنا لا أقصد أني لم أعُد أحبها، بل أقصد أنني لست بنفس الحماسة من جهتها.  وهذا الأمر يضايقني كثيرًا.

 أولاً أود أن أعبر عن إعجابي بتشخيصك للحالة؛ فهو دقيق وموضوعي كما هو عهدي بك.  وكذلك أحب أن أقول أني سعيد بتضايقك هذا!

 هل يسعدك أني متضايق؟!

 لست أبغي لك الضيق بكل تأكيد، بل أقصد أن شعورك بالضيق من هذه الحالة هو أمر صحي؛ فالطبيعة الجديدة بداخلك ترفض أن تعيش في هذا الوضع غير السليم، وهذا يقودك للبحث عن حل لإصلاح الحال بدلاً من أن تقبع في مكانك في هذه الحالة.

 فهل يمكنك إذًا مساعدتي؟

 أعدك بأن أحاول قدر استطاعتي، متكلين معًا على الرب الذي عنده دائمًا الإجابة لما يدور بداخلنا من تساؤلات.

 أرجوك اشرح لي إذًا ما الذي يحدث بداخلي.

 دعني ألتقط كلمة من حديثك أوضِّح لك بها شيئًا هامًا.

 وما هي؟

 كلمة “فتُرت”.  فأنت إذًا تعاني من حالة فتور.

 أعتقد ذلك.

 هل تساعدني بتعريف كلمة “فاتر”.

 اعتقد أنه الشيء الذي هو ليس ساخن جدًا ولا بارد جدًا؛ هو شيء في الوسط.

 صحيح.  وهذا يقرّبنا لتشخيص الوضع.

 كيف؟

 دعنا نأخذ مثالاً.  في حوض غسيل لدينا صنبور يوصل ماءً ساخنًا، وآخر يوصل ماءً باردًا؛ فإذا أردنا ماءً فاترًا فماذا علينا أن نفعل؟

 نخلط بعض الماء الساخن بالبارد.

 تمام.  وهذا ينطبق على حياتنا.

 كيف؟

 في حياتنا مصادر للالتهاب الروحي، تنعش الحياة وتبعث فيها القوة.

 أكيد تقصد دراسة كلمة الله وأوقات الصلاة.

 نعم، وكذا عِشرة المؤمنين وحضور الاجتماعات والأهداف الروحية السامية وكل ما نتعلمه في محضر الله.

 جميل.  هذا يمثِّل صنبور الماء الساخن.  وماذا عن البارد؟!

 إنها أمور أخرى موجودة في حياتنا أيضًا.  هي في حد ذاتها ليست بالضرورة مُضِرّة أو خطية، كما هو الحال مع قليل من الماء البارد في خلطة الماء لن يُلحَظ له أثرًا، لكن الكثير منها يؤدي إلى فتور الحال.

 أعطني أمثلة إذا تكرّمت.

 لنأخذ مثلاً التسليات البريئة كممارسة رياضة مثل كرة القدم، أو الخروج للنزهة مع بعض الأصدقاء المؤمنين، أو الاستخدام السليم للكمبيوتر بعض الوقت؛ كل هذه إن وضعنا لها حدودها المناسبة فلن تؤثِّر على حالتنا الروحية.  لكن تخيّل لو تحولت كرة القدم لتأخذ المركز الأول في حياتي، فأصبح كل ما أفكر فيه كيف أسدد بين “الثلاث الخشبات” وأنتزع إعجاب الآخرين لمهارتي في كرة القدم، وهكذا أصبحت أبحث عن كل ما ينمي مهاراتي فيها لأصرف فيه وقتًا، وقادني ذلك لمعاشرات ردية ولجلسات طويلة أمام أجهزة التلفاز للبحث عن المباريات المذاعة وما يتبعها من مشاهدات أخرى؛ هل تُرى يتبقى عندي اهتمام أولّيه للأمور الروحية؟

 أعتقد لا.

 وإن استهلكَت النزهات طاقاتي وجهدي ومواردي، أو إذا امتلك الكمبيوتر وقتي وسرق ساعات وساعات من يومي؛ فماذا يتبقى لي لأوجِّهه للاهتمام بأمور الله؟

 القليل جدًا بالتأكيد.

 وإن انشغلت كثيرًا بالأمور التافهة مثل “رنات الموبايل”، وإرسال الرسائل القصيرة من خلاله، والبريد الإلكتروني، ومواقع الثرثرة التي يسمونها “دردشة”، وقضاء الساعات أمام المرآة لتسريحة شعر جديدة أو مظهر “روش” للملابس، أو... أو...؛ هل تُرى تتوقع بعد ذلك أن يبقى عندي وقت أو طاقة لتلتهب حياتي بأمور الله؟

 بالطبع لا.

 وهكذا يا صديقي، بالإفراط في هذه الأمور، والاهتمام المبالَغ فيها، نحن نخلط الماء البارد، بل قُل أحيانًا المثلَّج، بمصادر الحرارة الروحية في حياتنا، فتكون النتيجة الحتمية هي الفتور ولا شك.  وكلما زادت هذه الأمور في حياتي كلما ازداد الفتور إلى أن يتحول إلى برود وبلادة روحية!

 هل تصدّقني إن قلت لك أنها أول مرة أفكر في الأمور بهذه الطريقة؟

 إذًا عِدني بأن تفكِّر جيدًا في هذا الأمر مَليًّا، وحدِّد في محضر الله الأمور الباردة التي تختلط بمنابع الحرارة في حياتك فتسبب لك الفتور، وصلِّ متكلاً على نعمته لتتخلص من سطوتها وتعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

 أعدك بذلك.  لكن هل هذا كل ما بالموضوع؟

 بالطبع لا، فلحديثنا بقية يا صديقي.

 فإلى لقاء قريب بمشيئة الرب.