إن الخدمة الحقيقية هي حياة مُكرَّسة بالكامل للرب، وليس مجرد بعض المُمارَسات الدينية. والله دائمًا يهمّه الخادم أكثر من الخدمة. لهذا يقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «اجتهد أن تقيم نفسك لله مُزَكَّى، عاملاً لا يُخْزَى، مُفصِّلاً كلمة الحق بالاستقامة» (2تيموثاوس2: 15). وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه كل خادم حقيقي للمسيح لكي يحظى بابتسامة السيد الذي يخدمه. والخادم المُزَكَّى ليس مَنْ يمدحه الناس، بل الذي مدحه من الله. والتعبير «عاملاً لا يخزى» يعني أن لا يعمل شيئًا يُسبِّب له الخزي. وهذا يتطلَّب السهر والحذر في كل كلمة أو تصرُّف. والرسول قد قدَّم نفسه قدوة للمؤمنين عندما قال: «ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة» (2كورنثوس6: 3)، وأيضًا «في كل شيء نُظْهِر أنفسنا كخدَّام الله: في صبر كثير» (2كورنثوس6: 4).
إن موسى، في يومه، وهو أول مَنْ تمَّ إعداده وتدريبه وتشكيله في مدرسة الله ليكون خادمًا، قد بدأ بدافع تكريس قوي، إذ قيل عنه: «بالإيمان موسى، لما كبر، أبى أن يُدعَى ابن ابنة فرعون، مُفضِّلاً بالأحرى أن يُذَلَّ مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غِنًى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المُجازاة» (عبرانيين11: 24- 26). لقد ضحَّى بالَّلقب المَلكي، والعرش المَلكي، والقصر المَلكي، والخزائن المَلكية، والتمتعات المَلكية. وفضَّل أن يختار الذل والمُعاناة مع شعب الرب، وكان يشعر بالفخر والامتياز أن ينتمي لهذا الشعب. وهذا هو التكريس الحقيقي.
إن الخادم المُكرَّس يأخذ مركز العبد المطيع الذي يفعل إرادة سيده. إنه يُقرّ بربوبية المسيح وسيادته على حياته بالكامل، ويقول مع المرنم:
سيدي ماذا تريد إنني لست أُريد |
|
اهدني حيث تُريد غير فعل ما تُريد |
إنه بسرور يُطيع، وهو دائمًا رهن الإشارة لِمَا يطلبه السيد. وهو على استعداد دائم أن يضحِّي بكل شيء لأجل الرب، ولا يُرضي نفسه. لقد قنع أنه مِلكٌ لآخر ويعيش لكي يُرضيه. والرب يُشكِّله ليكون إناءً للكرامة مُقدَّسًا، نافعًا لخدمة السيد، ومُستعَدًا لكل عمل صالح. وهو يعرف ليس فقط ماذا يعمل لأجل الرب، بل ماذا يحتمل لأجل الرب. ليس أن يقدِّم للرب بعض الأشياء، حتى لو كانت ثمينة، بل أن يقدِّم جسده وأعضاءه ذبيحة حيَّة مُقدَّسة مرضية للرب، وأن يسود المسيح على كل جوانب حياته.
وفي رموز العهد القديم نقرأ عن النذير الذي كان يُكرِّس نفسه طواعية للرب (عدد 6). وقبل أن يتكلَّم الكتاب عن العلامات الخارجية للنذير وما لا يفعله سلبيًا، فإن الكتاب يذكر أنه ينتذر للرب إيجابيًا 8 مرات. وهذا ما ظهر مع شاول الطرسوسي في أول لقاء له مع الرب في الطريق إلى دمشق، عندما ظهر له من المجد. فقال وهو مُرتعد ومتحيِّر: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أع 6:9). ونحن إذا عرفنا قيمة المسيح الذي أحبّنا وأسلم نفسه لأجلنا، والذي ضحَّى بكل شيء لكي يُخلِّصنا، والذي رفَّعه الله وكلَّله بالمجد والكرامة، وهو هناك في يمين العظمة في الأعالي يحيا لأجلنا؛ فحينئذ لن نضنّ عليه بالولاء والتكريس، وسنشعر أنه يستحق أكثر كثيرًا مما نفعل لأجله، وبسرور سنُعطيه المكان الأول في حياتنا. ومن هنا تنبع الخدمة الحقيقية التي تُفرِّح قلب الرب وتُؤثِّر في الآخرين.
أما العلامات الخارجية السلبية التي تُميِّز النَّذير المُكرَّس فهي أنه:
- لا يشرب خمرًا ولا مُسكرًا، ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا. ومن شهادة الكتاب عن الخمر أنها «تفرِّح قلب الإنسان»، نفهم أنها تشير إلى الأفراح والمسرَّات الأرضية. وهكذا نرى أن النَّذير يترفَّع ويتعفَّف عن كل المباهج العالمية، ويرفض بإباء كل ما يعرضه العالم من أمور جذَّابة ومُغرية للإنسان الطبيعي، حتى ما يبدو منها بريئًا. ذلك لأنه «إنسان الله» الذي يختلف عن إنسان العالم. إن عواطفه لا تستريح وتهنأ في الجو العالمي، مُدركًا أن العالم قد صلب ابن الله، لهذا لا يصلح أن يكون مصدرًا لأفراحه. إنه يُسَرّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. وفي ناموس الرب (كلمة الله) مسرته. والقدِّيسين والأفاضل كل مسرَّته بهم. إنه يسعد معهم في أجواء نقيَّة ويُمارس معهم شركة المحبة الأخوية. كذلك سروره أن يعمل مشيئة الله، وأن يحيا في رضاه، وأن يتمتع بالوجود في حضرة الله الذي أمامه شبع سرور. إنه يتلذَّذ بمحبة المسيح التي هي أطيب من الخمر.
- لا يمر مُوسَى على رأسه. أي يُربِّي خُصل شعر رأسه. وفي رخي الشعر نرى صورة للطاعة والخضوع وحمل العار لأجل الرب ولأجل شعب الرب. إنه يتسلَّح بنيَّة الاحتمال للرفض والإهانة والسخرية من جانب العالم في طريق تبعيته للرب. لكنه لا يهتم كثيرًا برأي الناس فيه، بل بتقدير الرب وإعجابه ورضاه. إنه يتحرَّك بدوافع غير منظورة لا يفهمها العالم. إنه يُنفِِق ويُنفَق لأجل الرب ويفعل ذلك بسرور. والرسول بولس كان أعظم مثال على ذلك.
- لا يتلامس مع جسد ميت حتى أقرب الناس إليه. والميت صورة للخاطي. فالنَّذير يعيش منفصلاً أدبيًا عن الأشرار، ولا يكون تحت نير مع غير المؤمنين، ويدرك أن المعاشرات الرديئة تُفسد الأخلاق الجيدة، وأن صداقة الأشرار تُدنِّس انتذاره. إنه يتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي.
هذا ما يُميِّز النَّذير المُكرَّس للرب،
وهذا هو الخادم الذي بحسب فكر الرب، والذي يستخدمه ويُحرِّكه الرب في خدمة ناجحة ومُؤثِّرة.