“باسم” شابٌ مؤمن، يقطن في مدينة “المنيا”. سافر في مهمة خاصة بعمله إلى مدينة القاهرة. أنهى باسم اجتماعاته الخاصة بعمله متأخرًا، وأسرع إلى محطة السكة الحديد، يقلّه أحد زملاء العمل في سيارته، آملاً الوصول في الوقت المناسب.
توقفت سيارة الصديق في شارع عماد الدين، في وسط البلد، نتيجة الازدحام الخانق، كما هي العادة في مدينة القاهرة. انتظر باسم فك الازمة لبضعة دقائق؛ ولما طال الوقت دون بادرة انفراج في الازمة المرورية، قفز مسرعًا يسابق الزمن، مستأنفًا المسافة ركضًا، يحاكى عدّائي المسافات الطويلة، لكنه كان يرتدي “بدلة” وليس “شورت” وحذاءًا رياضيًا، كما أنه كان يحمل حقائبه؛ لذا وصل باسم “على آخر نفس” إلى المحطة من ناحية رمسيس إلى “رصيف8”. ولكنه فوجئ بأن القطار على رصيف 11. ومن بُعد، لاحظ القطار واقفًا، فضاعف الجهد نازلاً سلالم النفق، صاعدها، لكي يلحق به. قُبَيل وصوله إلى القطار بثوانٍ معدودات، انطلقت صافرة القطار بصوت مزعج وتحرك، وتحرك معه قلب باسم من موضعه، فهو لا يريد أن يفوته قطاره، فأسرته في انتظاره على أحرّ من الجمر!
استجمع باسم شتات قوته مستأنفًا ركضِهِ حتى وصل إلى القطار، وكان قد بدأ التحرك. ألقى باسم بحقيبته إلى القطار، ثم بالكمبيوتر المحمول خاصته، ثم قفز ليلحق بحقائبه. ولكن - ويا للهول - أن يدا باسم المرتعشتين من التعب لم تقويا على الإمساك بالقطار جيدًا، فانزلقت قدمه ليسقط تحت القطار، وسط صرخات المسافرين الذين شاهدوا الموقف، ممتزجة بصرخات باسم نفسه، الذي وجد نفسه في غمضة عين تحت القطار، تَحُفّ به عجلات القطار الفولاذية من جانب، ورصيف نمرة 11 من الجانب الآخر؛ في حين واصل القطار سيره!!
مرّت عربات القطار السبع وباسم قابع في مكانه، وقد ألصقته يد العناية الإلهية بالرصيف دون أن تمسّه عجلات القطار!
مرَّ القطار والناس واقفين يحملقون، متوقعين رؤية أشلاء باسم بعد مرور القطار. وكم كانت المفاجأة حين مرّ القطار ورأى الناس “باسم نبيه” سليمًا معافى، إلا من قطع في بنطاله وانفصال نعل حذائه!!
وبعد أن أسرعوا به إلى المستشفى، أثبتت الفحوصات سلامته، اللهم إلا من كسر في أسفل الساق من أثر السقطة ليس إلاّ، واستدعى الأمر وضع ساقه في الجبس لمدة شهور.
انتهت الحادثة ويبقى السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: “أين الخير في هذه الحادثة؟!”.
“و” شابة مؤمنة متفوّقة، في الصف الثاني في إحدى كليات القمة - كما يسمونها. تفوق “و”، واجتهادها في المذاكرة طيلة العام، لم يشفعا لها أمام أحد أساتذتها في الكلية الذي وضع في قلبه - لغرض في نفس يعقوب - أن فتاتَنا لا بد وأن ترسب في نهاية العام. وقد استمر تصميم الأستاذ في امتحان الملحق أيضًا، وكانت النتيجة أن “و” قد اضطرت لإعادة سنة كاملة، دون أي ذنب جَنَته، في مادة صغيرة وسهلة!!
ويبقى السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: “لماذا؟!”.
وغيرها من القصص الواقعية عن العديد من المؤمنين المصابين بأمراض مؤلمة أو ظروف طاحنة، ولا يزال السؤال: “لماذا؟!”.
عزيزي القارئ .. اسمح لي أولاً أن أُبادرك، بأن لا أحد يملك الاجابة الكافية على السؤال “لماذا؟”، لأننا لسنا مكان الله. ولكننا نؤمن بالوعد العظيم : «كل الأشياء تعمل معًا للخير» (رومية8: 28).
ودعنا من هذا الوعد نستخلص حقائق ثمينة، لا يرقى إليها الشك:
1- الله فوق الكل
إن هذه الحوادث التي أسلفناها ليست خيرًا في حد ذاتها إذا نظرنا إليها بالانفصال عن الله، ولكن مَن الذي يجعلها تعمل للخير؟ الترجمة الأدقّة للآية موضوع حديثنا تقول إن الله يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير. إنه المصمِّم البارع لكل شيء. ولا مكان في حياة أولاده لصدفة، أو قَدَر، أو حظ، بل عهدًا أبديًا مُتقَنًا في كل شيء ومحفوظًا (2صموئيل23 :5). إن التاريخ هو قصة الله وهو يمسك بخيوطه.
إننا نرتكب أخطاءً، لكنه هو لا يخطئ أبدًا. إنه المتخصّص في تحويل اللعنة الي بركة (تثنية23 :5). وهو القادر أن يُخرج من الآكِل أُكلاً ومن الجافي حلاوة (قضاة14 :14)! هو الذي بيده زمام الأمر كله. وهو كلي الصلاح والمحبة والقدرة الذي يهيمن بسلطانه متحكِّمًا في كل شيء. فمن ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر؟ (مراثي3 :37).
2- قيمة كلمة ”كل“
ما أوسع الوعد الذي وَعَدَنا به الله. إنه يعني كل كلمة فيه! فالرسول لا يقول “بعض الأشياء” أو“معظم الأشياء”؛ ولكن «كل الأشياء»، بما في ذلك أخطاءك وخطاياك وجروحك، مرضك وديونك وموت أحبائك. إن باستطاعة الله أن يُخرج الخير من أسوإ الشرور؛ فقد فعل ذلك عددًا لا نهائيًا من المرَّات، وأعظم هذه المرات هي في الصليب. لماذا لا تُذَكِّر نفسك - عزيزي - إزاء كل ما تَمُرّ به من أمور تضغطك وتؤلمك، أن أمرك أيضًا مُتَضَمَّنٌ في كلمة «كل»؟
قال أحد المؤمنين قديمًا: “إذا نبح كلبٌ في الطريق، أو إذا دُستُ بقدمي على حصاة في الأرض، فإن هذا أيضًا للخير!”. قد تتهم هذا الأخ بالمبالغة، أو بالخيالية، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يجمع المحيط في يده؟ ومن ذا الذي يحدّ من سعة وعد الله، أو يقلِّل من قيمته؟ أَوَ تتَّهم الله أيضًا بالمبالغة حين قال: «كل الأشياء»؟!
3- الخير في الذل
كثيرًا ما نَشِطّ، في مفهمومنا عن الخير، عن المفاهيم الكتابية الصحيحة. إننا نميل لتفسير كلمة «خير»، بأن تكون ظروفنا سهلة، وحياتنا خالية من المشاكل، وطلباتنا مستجابة... الخ. إن كلمة «خير» عندنا هي المرادف لكلمة “راحة جسدية”!!
ولكن من قال إن هذا هو الخير؟! إن القرينة في الآية التي ننظر إليها، تؤكد أن الرسول كان يرى أن كل ما يساعد في جعله شبيهًا بالمسيح هو عين الخير، وذلك بغضّ النظر عن تأثير تلك الظروف على راحته أو صحته أو نجاحه «كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله ... ليكونوا مشابهين صورة ابنه». لذا فإن كل ما يسمح به الله أن يحدث في حياتك قد أُجيز لهذا القصد.
ومن رأي كاتب المزمور أن (الذل = خير) «خيرٌ لي أني تذللت، لكي أتعلم فرائضك» (مزمور119 :71). فالخير، من وجهة نظره هو أن يكون متذلّلاً متألّمًا، ولكن متعلِّمًا طريق فرائض الله، عن أن يكون معفيًا من الآلام وهو بعيد عن طاعة وصايا إلهه مبتعدًا عنه. فحبّذا الظروف التي تُقرِّبني منه أكثر، حتى وإن كانت مؤلمة.
ما أشد ضلال قلوبنا؛ فهي كثيرًا ما تبتعد عن الله حين تسير الأمور على ما يرام!! لذا قيل أيضًا «قبل أن أُذلَّل أنا ضللتُ (أي: حين كانت الحياة خالية من المشاكل، حدتُ عنه بعيدًا) أما الآن فحفظت قولك (أي: حين تذللتُ)» (مزمور119 :67) ويجب ألا ننسى أن الله يعمل مستهدِفًا خيرنا الأبدي وليس فقط الزمني، لذا يعلمنا الرسول أن «خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثِقلَ مجد أبديًا» (2كورنثوس4 :17).
أ تقبل بالشكر ما يسمح لك الله به، قائلاً مع المرنم «خيرٌ لي أني تذلّلت»؟