فاتورة المحبة

بطل قصتنا الحقيقية هذه المرة هو الدكتور هوارد كيلي Howard A. Kelly الذي ولد في 20 فبراير عام 1858م في بلدة كامدن بولاية نيوجيرسي الأمريكية، ورحل عن دنيانا في 12 يوليه 1943. وكان أستاذًا مميَّزًا في الطب البشري. وهو واحد من الأربعة الأطباء الكبار الذين أسّسوا جامعة جونس هوبكينز Johns Hopkins الشهيرة، والتي تُعتبَر من أقدم الجامعات الطبية للبحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو أيضًا الذي أسس فيها قسم أمراض النساء والولادة في عام 1895م.

كان هوارد، وهو شاب صغير، يجول سيرًا على الأقدام ليبيع بعض الملابس في شمال ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ليسدِّد نفقات تعليمه. وفي يوم كان خائر القوى من الجوع، وهو ليمتلك إلا 10 سنتات، وهي لا تكفي لشراء ما يُشبع جوعه الشديد. فقرر أن يطلب طعامًا من أول منزل قريب منه. ولما قرع الباب، فتحت له فتاة رقيقة وجميلة، ولما سألته عما يريد خجِل أن يطلب منها أن تعطيه طعامًا، فطلب منها كوب من الماء البارد. ولكنها لما رأت الجوع والإجهاد يظهران عليه، أحضرت له مع كوب الماء البارد كوب كبير من اللبن الساخن، وعلى الفور ابتدأ يشربه ببطء ليسدّ جوعه. وعندما سألها عن الثمن الذي يجب عليه أن يدفعه نظير هذا، أجابته بكل لطف وذوق مسيحي: “لقد تعلمت أن لا أتقاضى أجرًا عن عمل طيب أقوم به”. فشكرها بعمق، ثم غادر المكان.

مرت أعوام وأعوام، وتغيرت الأحوال، وأصبح الشاب الفقير “هوارد” هو الدكتور “هوارد كيلي” رئيس قسم أمراض النساء والولادة. كما صارت الفتاة الصغيرة شابة كبيرة، ومرضت مرضًا عضالاً لم يعرف أن يعالجه، ولا حتى يشخِّصه أي طبيب في بلدتها الصغيرة. فأرسلوها من مستشفى لأخرى، حتى وصلت إلى المستشفى المشهور، لتكون بين يدي أعظم الأطباء والإستشاريين وقتها؛ الدكتور هوارد كيلي.

وبينما كان الدكتور هوارد كيلي يمرّ على مرضاه، شاهد هذه المريضة، ولمّا قرأ اسم البلدة التي أتت منها، دارت في ذهنه سريعًا عجلة الزمن، وتذكَّر الماضي وكأنه في حلم جميل قائلا: “آه إنها نفس الفتاة الرائعة الرقيقة التي قدَّمت لي كوب اللبن وأنا جائع.. كم تغير شكلها بسبب المرض! كم أنت قاسٍ أيها المرض الشرس”.

ورغم أنه لم يَقُل لها شيئًا، لكنه اعتنى بها عناية خاصة، وأوصى بها كل من بالمستشفى. وبدأت معركته مع المرض اللعين، فأجرى لها الفحوصات، ثم عملية جراحية، بكل مهارة مع الأطباء معاونيه، واعتنى بها جدًا. تم شفاؤها تمامًا، وجاء وقت خروجها من المستشفى. فطلب الدكتور هاورد من إدارة خزينة المستشفى فاتورة العلاج والتي كانت باهظة، نظرًا لارتفاع تكاليف العملية والعلاج والفحوص والتحاليل والإقامة في المستشفى وباقي المتطلبات. وكتب بخط يده، تحت الرقم الرهيب من الدولارات المطلوبة من التي كانت مريضة، كتب عبارة: “خالص مع الشكر بكوب من اللبن”. ووقَّع بإمضائه تحت الفاتورة.

وصلت الفاتورة للشابة التي كانت قد شُفيت تمامًا، ولكن قلبها كان ينبض سريعًا منزعجة وهي تفتح المظروف الذي بداخله الفاتورة، فقد ظنت أن عليها أن تعمل بكل جهد طوال حياتها لتسدِّد التكلفة. ولما فتحت الفاتورة فوجئت وهي تقرأ: “خالص مع الشكر بكوب من اللبن”، مع توقيع الدكتور هوارد، الذي أتى بنفسه بعد هذا ليذكِّرها بما قدَّمته له وهو جائع، وكيف أنه يحاول أن يسدِّد فاتورة المحبة والخير الذي قدَّمته له وقتها.

عزيزي القارئ عزيزتي القارئة.. من أعجبك؟ هل هذه الشابة الرقيقة التي قدَّمت اللبن؟ أم الدكتور هوارد كيلي الذي عالجها مجانًا؟

لقد أعجبني كلاهما. وتذكرت الآية: «اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ» (جامعة11: 1). وتذكرت أيضًا المكتوب: «فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا... فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَسِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ» (غلاطية6: 7-10). لقد زرعت هذه الفتاة الْخَيْرِ، فحصدت مثله. لقد رمت خبزها على وجه المياه، فعاد إليها بعد أيام كثيرة.

لكن هذه القصة ذكَّرتني أيضًا بما قاله الرب يسوع لتلاميذه: «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي... وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى10: 40-42). لقد وعد الرب يسوع من يقبلونه، ويقبلون خدّامه ويعطونهم حتى كأسَ مَاءٍ بَارِدٍ، بمكافآت هنا وفي الأبدية أيضًا. فإن كان الدكتور هوارد لم ينسَ ولم يضيِّع أجرة كأس من اللبن، فكم وكم طبيبنا الأعظم، الرب يسوع المسيح، الذي لم يقدِّم لنا دواءً ماديًا أو عمليه جراحية، بل «صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا» (عبرانيين1: 3، 4). بحق هو الذي يقدم لنا فاتورة المحبة. وهذه بعض أعمال فاتورة محبته العظيمة:

1-محبة تغسِّل: «وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ... الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا1: 5).

2-محبة تقدّس: «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَاِ» (أفسس5: 25، 26).

3-محبة تغيّر: «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا... كي يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس5: 14، 15).

4-محبة تفرح: «اَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ» (نشيد2: 4).

5-محبة متبادلة: «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي» (يوحنا14: 21).

6-محبة وصداقة: «اَلْمُكْثِرُ الأَصْحَابِ يُخْرِبُ نَفْسَهُ وَلَكِنْ يُوجَدْ مُحِبٌّ أَلْزَقُ مِنَ الأَخِ» (أمثال18: 24).

7-محبة منتصرة: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟... وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية8: 35-37).

فهل تأتي إليه الآن مصليًا معي؟

صلاة:

يا من وعدت أنك لن تنسى كأس ماء.. أنت لأجلي سفكت كل الدماء. أقبلك وأعطيك حياتي بكل رضاء.. فامتلكني لأنتظرك وأعيش معك حتى للسماء.