كم هو عزيز في عيني الرب أن يتألم قديس من أجل اسمه وأن يهان ويعذب وهو يتمسك بحق الله مُعلنًا نعمته وكفاية عمل المسيح للخلاص. بل ما أعظم المكافأة التي أعدها لمن يظل أمينًا حتى الموت، ألم يَقُل الرب « كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك أكليل الحياة» (رؤيا2: 10)، حتى إن خارت النفس يومًا وضعفت تحت وطأة الألم وقسوة العذاب، فهو مقوّم كل المنحنين وعاضد كل الساقطين. وهو الذي يعرف أن يُغيث المُعيى بكلمة، وهو الذي يدعم شهادة قديسيه إلى النهاية. وهذا ما نراه في حياة وشهادة هذا البطل العظيم.
كان جيروم أستاذًا في اللاهوت وكان مشهودًا له بالتقوى والعلم. هذا الرجل المسيحي المحترم الذي كانت له مكانة عظيمة في أرقى الهيئات الإجتماعية في بوهيميا (جزء من جمهورية التشيك حاليًا).
إيمان جيروم
كان جيروم يؤمن - كما آمن جون هس - بأن الخلاص هو بالنعمة بالإيمان بالرب يسوع المسيح وقد نادى - في ذلك الوقت الذي ساد فيه الظلام والجهل بأمور الله (أوائل القرن الخامس عشر) بأن لا أحد يستطيع أن يخلص بمجهوداته وأعماله وهو الفكر الذي كان سائدًا وقتئذ.
جيروم وهس
كان جيروم صديقًا محبوبًا لهس وأخًا وفيًا. وحينما سمع جيروم بمحاكمة هس تبعه إلى المجمع ولكن هس أنذره بالخطر الذي قد يصيبه. ولما تأكد أن وجوده في كونستانس غير مأمون العواقب رحل إلى بوهيميا إلا أن أعداء إنجيل المسيح لاحقوه في بوهيميا وقبضوا عليه وأتوا به مكبلًا بالأغلال. وبعد القبض عليه مباشرة أتوا به إلى المجمع للفحص والتحرى، وهناك قام الكثيرون يتهمونه ويعيرونه ولكنه أعلن بثبات أنه مستعد لأن يبذل حياته في سبيل الدفاع عن الإنجيل الذي يكرز به. وهنا قرر المجمع تأجيل موضوعه حتى الانتهاء من قضية جون هس، فأودعوه في سجن مُظلم ورجليه ويديه مربوطة إلى عامود خشبي طويل. وظل عدة أشهر يقاسي السجن والأغلال والظلمة والطعام القليل دون أن يكون له مَنْ يشجعه أو يعزيه، حتى صغرت نفسه وضعفت روحه وخارت قواه تحت ثقل الآلام المُبرحة واستطاعوا أن يؤثروا عليه حتى ينكر تعاليمه. وبالأسف أنكر جيروم آراءه السابقة فأطلقوا حريته، ولكن سرعان ما قبضوا عليه مرة أخرى وسجنوه بحجة أنهم يشتبهون في إخلاصه فيما قام به من تراجع وإنكار. وبتصرفهم هذا انفتحت عينا جيروم واستخدم الرب ذلك لرَّد نفسه فندم ندمًا مرًا على إنكاره وتراجعه، وعادت له شركته مع الرب، وابتهج من جديد بضياء وجهه. فوجهوا إليه تُهمًا جديدة ليقودوه إلى مذلة أعمق.
محاكمة جيروم
وعند المحاكمة الأخيرة لما سمحوا له بأن يتكلم عن نفسه فأجأ أعداءه بأن إدانته لويكليف وهس وإنكاره لتعاليمهما كانت خطية شنيعة من جانبه يندم عليها ندمًا مُرًا. وابتدأ بالصلاة طالبًا من الله أن يسود على قلبه بالنعمة حتى لا تنطق شفتاه بأي شيء سوى ما فيه مجده وبركة نفسه. وأخذ يتكلم عن الرجال الأمناء الأفاضل الذين كانوا فريسة الشهود الزور ذاكرًا يوسف وإشعياء ودانيال ويوحنا المعمدان والرب المبارك نفسه ورسله واسطفانوس.
كان جيروم بليغًا وفصيحًا، حتى أثّرت أقواله على أعدائه وأثارت إعجابهم وخصوصًا لما علموا أنه قضى 340 يومًا محبوسًا في سجن مظلم. وقد رجعت إليه كل شجاعته الهادئة، أو بالحري أصبح يتكلم بقوة الروح القدس وصرّح أنه يتمسك حتى الموت بتعاليم الكتاب كما أعلنها ويكليف وهس، وإزاء هذا التصريح حكموا بهرطقته ومن ثم إعدامه.
إعدام جيروم
وفي يوم 30 مايو 1416 سُلم جيروم لتنفيذ حكم الموت. وجاء جيروم إلى عمود الحريق فرحًا مسرورًا كما لو كان ذاهبًا إلى احتفال بهيج، وعندما أراد الجلاد أن يشعل النار من ورائه قال له جيروم. ضع النار أمامي من فضلك. فلو كنت أخشاها لكان في مقدوري أن أتجنبها وأنجو منها. وقد استمر جيروم يرنم ويسبح بصوت عميق رزين وأنشد إحدى ترانيم القيامة التي كانت مشهورة في ذلك الوقت التي تقول « يا له من يوم سعيد فيه تدعو النفس للسجود، يوم قهر جهنم رب المجد العظيم » ولم يتفوه بكلمة تدل على خوف أو جزع بل قال « أنت تعلم يا رب إني أحببت حقك » وظل يرنم وسط اللهب حتى انطلقت نفسه إلى سيده.