لا يخاصم ولا يصيح (متى19:12)
عندما كان الرب يسوع هنا على الأرض كتب عنه «مُجَرَّب في كل شيء» (عبرانيين4: 15)، ومن ضمن ما تعرض له سيدنا العظيم مظاهر الرفض والبغضة من المحيطين به، لكن ما أعظمه مثلاً رائعًا في هذا الأمر؛ فقد طبَّق عمليًا ما قاله عن نفسه «تعلموا مني؛ لأني وديع ومتواضع القلب» (متى11: 29).
دعونا نناقش هذا الموضوع ببعض التفصيل، حتى نتعلم منه دروسًا هامة في كيفية التصرف إزاء مظاهر الرفض والبغضة المحيطة بنا، أو التي قد تصدر منا.
أولاً: أسباب مواقف الرفض والبغضة
كثيرًا ما نتعرض للرفض والبغضة من الذين حولنا، كما حدث مع سيدنا الذي كُتب عنه «أكثر من شعر رأس الذين يبغضونني بلا سبب» (مزمور 69: 4). ودعونا نفحص الأسباب الفعلية لمظاهر الرفض:
- الخوف على المصالح الشخصية
عندما أخرج الرب الشياطين من مجنون كورة الجدريين، فدخلت في الخنازير التي اندفعت من إلى البحر واختنقت؛ جاء أهل المدينة وأبتدأوا يطلبون من الرب أن يمضي من تخومهم (مرقس5:1-17). لقد سيطرت عليهم مصالحهم الشخصية، الممثَّلة في الخنازير، بدلاً من استفادتهم من وجود الرب في وسطهم، وكذلك تمتعهم بنتائج تحرير المجنون من الشياطين.
ألا يحدث هذا كثيرًا الآن، سواء منا أو تجاهنا؛ عندما تصبح المصالح الزمنية المادية سببًا في رفضنا بعضًا لبعض، وهكذا نفقد التمتع بمعاملات الله معنا؟!
- التعصب الأعمى للأفكار والقناعات الشخصية
عندما شفى الرب ذو اليد اليابسة في يوم السبت، اشتكى عليه اليهود وتشاوروا لكي يقتلوه (متى12: 10-14). وهنا نرى كيف أن التعصب الأعمى يغلق الفكر تمامًا عن الفهم الصحيح لفكر الله من جهة البشرية «السبت إنما جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس 2:27)؛ فبدلاً من وضع مصلحة الإنسان وإنطلاقه الصحيح في حياته في المقام الأول، نتمسك بتعاليم ووصايا قد تكون صحيحة في مضمونها لكننا نطبِّقها بطريقة خاطئة قد تعطل الإنسان وتحرمه من التمتع الصحيح بحياته.
- الخوف على المكانة الشخصية أو المركز
عندما أقام الرب لعازر سبَّب هذا إيمان كثيرين من اليهود بالمسيح. ولكن بدلاً من أن يكون هذا سببًا في قبول الفريسيين والكهنة أن الرب يسوع هو المسيح المخلّص الآتي إلى العالم، إذا بهم يخطِّطون لقتله، وليس هو فقط بل أيضًا لعازر «إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا» (يوحن11:47-53؛ 12: 10).
ألا يحدث هذا مع كثيرين، فالخوف على المركز وعلى تهديد مكانتنا يدفعنا لأخذ موقف الرفض، بدلاً من إعادة التفكير في الأمور وقبول الحق الذي يحرِّر.
- تأنيب الضمير مع عدم التجاوب مع الحق
عندما دخل الرب يسوع المجمع في بداية خدمته، قام ليقرأ في سفر إشعياء (لوقا4:16-29) ثم بدأ يوضِّح لهم وضعهم وموقف الله من جهتهم. بدلاً من الاعتراف بحالتهم وأخذ موقف التوبة القلبية والرجوع للرب، امتلأوا غضبًا وأخرجوه خارج المدينة إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل.
يحدث هذا معنا عندما نشعر بتأنيب الضمير من خطإ تصرّفناه، وبدلاً من أن نتوب ونصحِّح مسارنا، نأخذ موقف المدافع والرافض والمقاوم للآخرين.
ثانيًا: التصرف الصحيح تجاه مواقف البغضة والرفض
نقرأ في غلاطية 5: 19، 20 «أعمال الجسد ظاهرة التي هي... عداوة خصام غيره سخط تحزب»؛ لذلك يحرِّضنا الكتاب على أخذ الموقف الصحيح تجاهها بالقول «اطرحوا عنكم أنتم أيضًا الكل: الغضب السخط... الكلام القبيح من أفواهكم» (كولوسي 3:8).
لذلك دعونا نتعلم من سيدنا العظيم التصرف العملي الصحيح في مثل هذه المواقف.
- عدم التصدي بالمثل لمواقف البغضة والرفض
عندما علم الرب يسوع بأن الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه نقرأ القول «إنصرف من هناك» (متى12: 14، 15)؛ لقد كان كما كتب بطرس « إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد» (1بطرس 2: 23).
إن الإنسان الطبيعي لا يمكن أن يتصرف هكذا، لكن المؤمن الحقيقي له امتياز سكنى الروح القدس في داخله، وعندما يعطيه القيادة في حياته؛ يختبر عمليًا القول «أسلكوا بالروح (وعندئذ) فلتكملوا شهوة الجسد» (غلاطية 5: 16).
- مقابلة البغضة والرفض بالإحسان واللطف
عندما كان الرب يحاكَم أمام رؤساء الكهنة، اندفع واحد من الخدّام الواقفين ولطم الرب يسوع قائلاً له «أ هكذا تجاوب رئيس الكهنة؟». ماذا كان رد فعل الرب له المجد؟ كان يمكن أن يرد هذه الإساءة والرفض بإدانة وشدة، لكنه أجاب قائلاً «إن كنت قد تكلَّمت رديًا فأشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني» (يوحنا 18: 23). لقد انطبق عليه عمليًا القول «ظُلم أما هو فتذلَّل ولم يفتح فاه» (إشعياء 53: 7). بحق لم يخاصم ولم يصيح. أين نحن من هذا؟ هل نستمع إلى النصيحة الإلهية في رومية12:19-20 «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الاحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب... فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه»؟
- التعامل مع الداخل والدوافع وليس التصرفات الخارجية
عندما أخرج الرب الشياطين من مجنون كورة الجدريين، وطلب منه رعاة الخنازير أن يمضي من تخومهم، ماذا فعل الرب؟ ذهب ودخل السفينة، وقال للذي كان مجنونًا «إرجع إلى بيتك وحدث بكم صنع الله بك»، فماذا كانت النتيجة؟ «مضى وهو ينادي في المدينة بكم صنع به يسوع... ولما رجع يسوع قبله الجمع لأنهم كانوا جميعهم ينتظرونه» (لوقا8: 37-40). ومن هذا نتعلم أن الرعاة طلبوا أن يذهب الرب عنهم لا لأنهم يرفضونه كشخص، بل رفضوا ما فعله؛ لأنهم ظنوا للوهله الأولى أنه أفقدهم مصدر دخلهم الزمني. لكن عندما رأوا محدث للمجنون، ورد فعل الرب معهم، راجعوا أنفسهم ثانية وقبلوا شهادته. لذلك انتظروا الرب يسوع وقبلوه عندما أتى ثانية.
هل نتعلم هذا الدرس الهام؛ فلا ننفعل مباشرة مع التصرفات الخارجية من رفض أو بغضة بل نعطي فرصة أكبر للتركيز على الدوافع الداخلية حتى نتعامل معها بالطريقة الصحيحة؟ وعندها يمكن أن تكون سبب بركة حقيقية للكثيرين.
في النهاية ليتنا نتعلم هذه الدروس العظيمة من سيدنا معطين فرصة للروح القدس أن يعمل فينا فيظهر فينا ثمره الحقيقي الذي منه «وداعه تعفف (ضبط نفس)» وهكذا يصبح من السهل علينا أن نتمثل به عمليًا في القول «لا يخاصم ولا يصيح وليسمع أحد في الشوارع صوته».