الخادم بين الترفيه واحتمال المعاناة
«اشترك أنت في احتمال المَشَقَّات، كجندي صالح ليسوع المسيح» (2تيموثاوس2: 3)
كل مؤمن حقيقي ارتبط بالمسيح وصار تحت لواء محبته، هو خادم للمسيح بشكل أو آخر، حسب الوزنة التي أُعطيتْ له. ولكي يكون خادمًا ناجحًا، يجب أن يتسلَّح بنيَّة احتمال المشقات بصبر وطول أناة. فيتكيَّف ويتعايش مع الضغوط والحرمان والمعاناة لفترة طويلة دون أن يكِلّ، ويتحمَّل الصدمات المفاجئة دون أن ينكسر. وعليه أن يعرف أن الطريق شائكٌ، وأنه سيحمل الصليب. وهناك فارق كبير بين حياة الرفاهية وحياة الجندية.
حدَّثنا الرب يسوع عن شخص غني، كان يلبس الأرجوان والبز، ويتنعَّم كل يوم مُترفِّها (لوقا16: 19). كان يسير في الطريق الواسع المليء بالمسرَّات والملذَّات العالمية والراحة والرخاء والرفاهية، وخَلَتْ حياته من المعاناة. كان يعيش لأجل نفسه فقط، وكانت الذات هي محور تفكيره. كان يسعى لإشباع وإمتاع رغباته التي يُدلِّلها. قَطّ لم يفكِّر في الله، ولا فكَّر في الآخرين. وبذلك كسر مُحتوَى الناموس الذي يتلخَّص في عبارة: «تُحب الرب إلهك من كل قلبك... وتحب قريبك كنفسك».
ربما تشعر أن هذه الحالة الخاصة من الرفاهية مُتطرِّفة للغاية، وتقول في نفسك: “أنا لستُ كذلك”. وبالحق قد لا تكون بهذه الصورة، ربما لأن ظروفك وإمكانياتك لتسمح بذلك. لكن المبدأ الذي تعيش به هو تدليل رغبات نفسك، والهروب من المعاناة كلّما أمكن ذلك. وقد تقول: “ولمَ لا؟ وأي ضرَر في ذلك؟ وهل أُخطئ إن كنت أحب نفسي؟ وطالما سأعيش حياة واحدة، فلماذا أحرم نفسي من مُتع ومباهج الحياة؟”
ولكي نجيب على هذه التساؤلات وغيرها، دعونا نسمع ما نطق به رب المجد عندما قال: «مَنْ يحب نفسه يُهلكها، ومَنْ يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يوحنا12:25). من هنا نفهم أن مبدأ إرضاء النفس وتدليلها سيؤدّي حتمًا إلى تدميرها وإهلاكها، والعكس صحيح. ذلك لأن رغبات النفس نابعة من الجسد الفاسد الذي فينا، وهي في المؤمن أو غير المؤمن على السواء. إنها تختلف عن رغبات الروح التي عندما نلبيها سنصل إلى علاقة أفضل مع الله. وعلى العكس فإن تلبية رغبات النفس ستجنح بنا بعيدًا عن الله. ولكن هل كل رغبات النفس خاطئة؟ أليس فيها بعض الأمور المشروعة؟ بكل تأكيد: نعم. بل إن هناك احتياجات أساسية لا نستطيع أن نحيا بدونها. ونحن نستعمل من هذا العالم ما يلزمنا في رحلة الحياة القصيرة، في حدود الإمكانات المتاحة، قانعين بظروفنا وشاكرين. وفي عصرنا الحديث، حيث التقدم العلمي والتكنولوجيا، هناك أشياء تُعتَبر ضرورية ونافعة حتى للخدمة، ولم تعُد أشياء ترفيهية. وبالطبع ليس كل ترفيه خطية. وحياة الجندية مع كل ما فيها من مشقّات وقسوة ومعاناة، لا تخلو من أوقات ترفيهية. وكذلك حياة الخادم المُكرَّس. لكن هناك فارق كبير بين شخص له الحياة هي المسيح، ولا يستطيع الحياة بدونه، وآخر له الحياة هي الترفيه، ولا يستطيع الحياة بدونه، ولا يحتمل المعاناة، ولا يتنازل عن رغباته ولا يعرف أن يؤجِّلها. وبالطبع مثل هذا الشخص لا يصلح أن يكون خادمًا ناجحًا للرب.
كان فكر الله واضحًا من جهة هذا الأمر في رحلة شعبه من مصر إلى كنعان، بعد الفداء وعبور البحر الأحمر. حيث ساروا في البرية لمدة 40 سنة، في قفر عظيم مخوف. وما ميَّز هذه الرحلة بطولها هو قِلَّة المياه، إذ تكررت كثيرًا عبارة «ولم يجدوا ماءً» أو «ولم يكن ماءٌ» (خروج15:22؛ 17:1؛ عدد20:2). والماء يُعبِّر عما ينعش الإنسان من مسرَّات طبيعية تطلبها نفسه، أو ما يمكن أن نعتبره ترفيهًا مشروعًا. وإن كان في معظم أجزاء الرحلة كانت المياه قليلة أو منعدمة، وأحيانًا مُرَّة كما حدث في «مارة»، لكنها لم تخلُ من «إيليم» حيث وجدوا الراحة والشبع والإنعاش (الترفيه)، مما خفف عنهم عناء الرحلة لمواصلة المسير.
إن النبات الصحراوي يعيش ويثمر في ظروف صعبة، ويتكيَّف مع المياه القليلة والشمس اللافحة. ووفرة المياه تضره. كذلك حياة المؤمن ولا سيما الذي يخدم. إنه يعيش على القليل من مصادر الإنعاش، ويحتمل المشقات والمعاناة، وكثرة التدليل والترفيه تفسده، وتجعله غير مُؤهَّل للخدمة.وإذا رجعنا إلى قصة جدعون ورجاله الذين خرجوا لمحاربة المديانيين (قضاة7)، سنجد نفس الفكر. لقد وُضِعُوا تحت الامتحان عند الماء. مَنْ منهم يصلح للحرب؟ وهذا سيتقرر بُناءً على الطريقة التي سيشرب بها كل فرد حسب عادته وطبيعته. وكانت نتيجة الامتحان أن 9700 شخص جثوا على ركبهم للشرب، و300 شخص فقط ولغوا بأيديهم إلى فمهم. وهؤلاء هم الذين استخدمهم الرب فى الحرب. إنهم يقنعون بالقليل من الماء ويتناولونه بسرعة، وأمامهم الهدف الأسمى، وهو الحرب والنصرة. لقد أخذوا الماء بأيديهم، أي أنهم يتحكَّمون فيما يأخذون ويستعملون من مصادر الإنعاش والترفيه. أما الأكثرية فأعطوا حياتهم واهتمامهم للشرب فجثوا على ركبهم، أي ركعوا أمام رغباتهم وشهواتهم. وبالطبع أمثال هؤلاء لا يصلحون للخدمة. والآن دعني أسالك أيها القارئ العزيز: كم من الوقت تقضيه في الرياضات والتسليات والخروجات للنزهة والمحادثات فى الموبايلات؟ ماذا تشاهد على الفضائيات، وماذا تفعل أمام شاشة الكومبيوتر بالساعات؟ هل عرفت معنى الجندية المسيحية؟ هذا ما قاله بولس لتيمــوثــاوس: «اشترك أنت في احتمـال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح» (2تيموثاوس2:3). إن حياة الجندي ليست ناعمة ومليئة بالمسرَّات والترفيه، بل هي حياة خشنة مليئة بالمعاناة والحرمان، وفيها جهاد وانضباط. والجندي الصالح لا يُرضي نفسه بل يُرضي سيده، ويتعلَّم أن يضبط نفسه في كل شيء مثل: الأكل واللبس والنوم والنزهة والرياضات والتسليات والعلاقات. إنه على استعداد أن يُضحِّي بكل شيء عزيز في عينيه من أجل الرب وشعب الرب. وهذا هو الخادم الحقيقي الذي يستخدمه الرب بنجاح. وهكذا كان المثال الكامل، والخادم الأعظم، شخص الرب يسوع المسيح الذي تعب وأفنَى قدرته، ولم يبحث عن حقوقه، ولم يفكِّر في راحته، ولم يعمل شيئًا واحدًا لأجل نفسه. لم يُرضِ نفسه، ولم يُمجِّد نفسه، بل أخلَى نفسه، ووضع نفسه، وسكب للموت نفسه، فما أروعه مثال!