(قضاة10: 1، 2)
في الأصحاح التاسع من سفر القضاة نقرأ عن أبيمالك بْنُ جدعون الذي أراد أن يكون ملكًا بعد موت أبيه، وحكم فعلاً ثلاث سنوات. وفي البداية حصل على تأييد عشيرة أُمِّهِ، ودعوتهم كل إسرائيل لتأييده، فجاء إلى بيت أبيه في عفرة، وقتل إخوته بني جدعون، سبعين رَجُلاً، ولم ينجُ إلا الابن الأصغر يوثام لأنه اختبأ. وقد حدث عصيان مسلح ضده، في شكيم، ومع أنه استطاع قمعه، إلا أنه قُتل بحجر رَحًى طرحته امرأةٌ على رأسه من فوق سور برج تاباص، وخشية أن يُقال عنه: «قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ»، طلب من حامل سلاحه أن يقتُلهُ، فطعَنهُ الغُلامُ فماتَ. وكان موته الشنيع عقابًا عادلاً لأفعاله الدموية.
كانت تحكم أبيمالك رغبة واحدة قوية وهي أن يتسلط ويحكم. ولا نُشاهد في كل تاريخه أي مشاهد روحية. وأُعطيَّ لنا كتحذير وليس كمثال، لأن الكبرياء هي أعظم الشرور إضرارًا بنا، ومن بين كل أعدائنا فإنها أبطأهم موتًا وأصعبهم. والله يُبغض الكبرياء فوق كل الشرور (أمثال6:16،17؛ 8:13؛ 15:25؛ مزمور101:5؛ دانيآل4:37)، لأنها تُعطي الإنسان مكانًا ليس هو مكانه، بل يخص الله وحده الذي هو المُرَّفع فوق الكل. إنها تقطع الشركة مع الله، وتستدعي نزول القضاء والتأديب الإلهي، ومكتوب: «يُقَاوِمُ الله المُستكبرين، وأما المُتواضِعُونَ فَيُعطِيهِم نِعمَةً» (يعقوب4:6).
وبعد أن انتهى مُلك أبيمالك العاصف، جاء زمن سعيد بالمباينة مع حكم ذاك المتغطرس «وَقَامَ بَعْدَ أَبِيمَالِكَ لِتَخْلِيصِ إِسْرَائِيلَ تُولَعُ بْنُ فُوَاةَ بْنِ دُودُو، رَجُلٌ مِنْ يَسَّاكَرَ، كَانَ سَاكِنًا فِي شَامِيرَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ. فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي شَامِيرَ» (قضاة10: 1، 2). وفي «تُولَعُ بْنُ فُوَاةَ بْنِ دُودُو» نجد صورة رمزية جميلة لربنا يسوع المسيح؛ في شخصه وفي عمله:
أولاً: «َقَامَ بَعْدَ أَبِيمَالِكَ»؛ أبيمالك المتغطرس الذي أراد أن يُعظّم ويُرفّع نفسه إلى أعلى مكان. وتُولَعُ في هذا رمز للرب يسوع المسيح، آدم الأخير، الإنسان الثاني الرب من السماء (1كورنثوس15: 45، 47). لقد سقط أبوينا، في الجنة، في خطية الكبرياء «يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله (أو كآلهة)» (تكوين3: 4، 5). إنها شهوة الإلوهية؛ عدم الرضا وعدم الاكتفاء بالمستوى البشري، والطمع في موقف المساواة مع الله بدلاً من موقف الطاعة والخضوع لله. إن آدم، الإنسان الأول، لكونه مخلوقًا، كان تحت التزام الخضوع لمشيئة الله، بيد أنه عصى حتى الموت لأنه ترفّع لكي يكون مثل الله. ولكن على النقيض بالتمام، نرى ذاك الفريد المجيد، الذي مع كونه الله؛ الواحد مع الآب في الجوهر، والمُساوي له في الأقنومية، نراه وقد أخلى نفسه ليكون عبدًا، وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسانٍ، وضع نفسه إلى آخر درجات الاتضاع بموت الصليب، لكي يُطيع الله ويُمجّده في ذات الموضع الذي أُهينت فيه كرامته (فيلبي2: 6-11).
ثانيًا: «وَقَامَ ... لِتَخْلِيصِ إِسْرَائِيلَ» صورة للرب يسوع المسيح المُخلِّص (لوقا2:11)، والذي «ليس بأحدٍ غيره الخلاص» (أعمال4:12). والخلاص من الخطية هو أسمى متصبو إليه النفوس، ولذلك فقد تحنَّن الله على الإنسان الخاطئ المُستعبَد لخطيته، فأرسل الرب يسوع ليُخلّصهُ من دينونة الخطية، ومن عبوديتها وسطوتها. وهو - له كل المجد - مُخلِّص العالم (يوحنا3:17؛ 4:42؛ 12:47)، وهو أيضًا مُخلِّصي أنا (لوقا1:47).
ثالثًا: الاسم «تُولَعُ» معناه “دودة”. وفي كلمة الله يُقصَّد بالدودة، الضعف الشديد والاحتقار والازدراء (إشعياء41:14). والرب يسوع في اتضاعه كان مُحتقَرًا ومخذولاً من الناس (إشعياء53:3)، وصُلِبَ مِنْ ضَعفٍ (2كورنثوس13:4)، وقال عن نفسه بروح النبوة: «أما أنا فدودةٌ (تُولَع) لا إنسانٌ» (مزمور22:6).
رابعًا: وهو ابن «فُوَاةَ» أي “الكلمة” أو “المُتكلِّم”. والرب يسوع المسيح، ابن الله هو الكلمة؛ الأقنوم المُعبِّر عن الله وعن فكر الله (يوحنا1: 18؛ عبرانيين1: 1)، فقد عبَّر في الخليقة عن حكمة الله وقدرته ومجده، وعبَّر في الفداء عن محبة الله وبرّه، وسيُعبِّر في الدينونة عن قداسة الله وعدله وغضبه.
خامسًا: وهو ابن« دُودُو»، والاسم معناه “محبوب الرب”، صورة لذاك الذي هو “ابن محبة الآب” (كولوسي1:13)، «الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب» (يوحنا1:18). ومحبة الآب للابن تُذكر في إنجيل يوحنا 7 مرات (يوحنا3:35؛ 5:20؛ 10:17؛ 15:9؛ 17:23،24،26). ففي الابن استقرّت المحبة الأبوية واللذة السرية التي لا يعرفها سوى مَنْ كان وحيدًا عند أبيه (تكوين22: 2).
سادسًا: «رَجُلٌ مِنْ يَسَّاكَرَ». والاسم «يَسَّاكَرَ» معناه “مكافأة” أو “أجرة”. والرب يسوع المسيح، لكونه الإنسان الكامل الذي مجَّد الله تمجيدًا كاملاً، قد أُعطيَّ عطايا ومكافآت من الآب «صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ (أي كإنسان)» (مزمور68: 18). لقد مجَّده الله ورفَّعهُ، وأعطاهُ اسمًا فوق كل اسم (يوحنا17:22؛ فيلبي2:9)، وأعطاه المُلك (مزمور2:6)، وأعطاه أن يدين (يوحنا5: 22)، وأُعطيت له الكنيسة؛ عروسه السماوية التي ستشاركه أمجاده (يوحنا17:6).
سابعًا: «كَانَ سَاكِنًا فِي شَامِيرَ». والاسم «شَامِيرَ» يعني “الثبات والصلابة وعدم التغيّر”. والثبات والدوام وعدم التغيّر هما في المسيح دون سواه: «يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين13:8)، «لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يعقوب1:17)، لا يعتريه الضعف أو الوهن، الكل يذهب إلى الشيخوخة، أما هو فسِنُوه لن تنتهي (مزمور102:27).
ثامنًا: وكانت مدينة سُكناه «فِي جَبَلِ أَفْرَايِم». والاسم «أَفْرَايِم» معناه “الإثمار المُضاعف”. وربنا المعبود هو حبَّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت لكي تأتي بالثمر الكثير (يوحنا12:24)، «لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ» (عبرانيين2:10). وفي رسالة رومية نقرأ عن «إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية8: 29). ويا لها من حظوة! فنحن لله أبناء كثيرين.. ونحن للبكر إخوة كثيرين.. فيلروعة النعمة!! يا لغناها!! يا لسموها!!