ظلّ ناظر محطة الاتوبيس بإحدى المدن المصرية ينادي، المرة تلو المرة، على ميعاد الساعة العاشرة قائلاً: “السيارة المتجهة إلى القاهرة بها أماكن خالية، وقائمة في الميعاد”. حتى جاء ميعاد تحرك الاتوبيس، فنادى قائلاً: “النداء الأخير: السيارة المتجهة إلى القاهرة بها أماكن خالية وقائمة في الميعاد”. وفي تمام العاشرة، قامت السيارة فعلاً. وكم كان الحزن شديدًا على هؤلاء الذين تأخروا وجاؤوا بعد الساعة العاشرة!
ذكَّرتني هذه الواقعة بنداء آخر، وأهم، وهو أخير أيضًا؛ عندما مَرَّ المسيح على مدينة أريحا مرورًا أخيرًا، عندما «كان بارتيماوس الأعمى... جالسًا على الطريق يستعطي. فلما سمع أنه يسوع الناصري، ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره كثيرون ليسكت؛ فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر أن يُنادى. فنادوا الأعمى قائلين له: ثق! قم! هوذا يناديك. فطرح رداءه وقام وجاء إلى يسوع. فأجاب يسوع وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب؛ إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق»
(مرقس10: 46-52).
إن الأعمى هو الذي لا يرى الطريق، ولا يرى النور، ومؤكَّد أنه سيسقط في الحفرة. والطريق هو الرب يسوع (يوحنا14: 6)، وهو أيضًا النور (يوحنا8: 12)، ومن لا يؤمن به، فحتمًا سيسقط في الحفرة (بحيرة النار والكبريت).
والمسيح هنا يسمع لإنسان أعمى، بل ويقف لأجله، ويناديه، ويرحمه ويمنحه البصر. لقد كان مرور يسوع هو المرور الأخير له من هذه الطريق إلى أورشليم، حيث الموت والقيامة. لذلك كانت فرصة الأعمى فرصة ذهبية، ولا تعوَّض، فرصة لنوال الحياة الأبدية. ولقد استغلها الأعمى أفضل استغلال، وصرخ ؛ «فوقف يسوع»!! لقد طلب يشوع أن تدوم الشمس فوقفت الشمس (يشوع10: 12-14)؛ أما هنا، فالذي وقف هو رب الشمس وخالقها، وليس استجابة لقائد عسكري كيشوع رجل الإيمان، بل لمتسول أعمى. فيا له من إله حنَّان!
1 - العمى ألوان
العمى إما أن يكون حرفيًا أو روحيًا. والعمى الحرفي قد يكون: بسبب مرض (لوقا7: 21)، أو بسبب خَلقي (يوحنا9)، أو بسبب الأرواح الشريرة (لوقا7: 21؛ متى12: 22)، أو بسبب أخلاقي؛ فأول من ضُرب بالعمى هم رجال سدوم لانحطاط أخلاقهم (تكوين19: 11؛ صفنيا1: 17).
وإن كان البعض من أحبائنا وأقاربنا قد سمح الرب لهم، لحكمة عنده، بفقدان نعمة البصر، لكنهم ما زالوا يمجِّدون الله. على أن الكثيرين قد فقدوا البصيرة الروحية، وهذا هو الأخطر، وذلك يرجع إلى:
الشيطان: «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين؛ لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2كورنثوس 4: 4).
المعلمون الكذبة: قال عنهم المسيح: «اتركوهم. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة» (متى15: 14).
الجهل: «إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله؛ لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم» (أفسس4: 18).
الأعمال الشريرة: «وأحب الناس الظلمة أكثر من النور؛ لأن أعمالهم كانت شريرة» (يوحنا3: 19).
2 - للنور عنوان
واحد فقط أمكنه أن يقول «أنا هو النور»؛ ولأن اسمه “عجيب”، فلا عجب أن يكون نوره أيضًا عجيب. في تكوين19: 11 أعمت الملائكة الإنسان، وفي 2ملوك6: 18 الأنبياء أعموا الإنسان؛ أما المسيح فهو وحده الذي يفتح أعين العميان. وإن كان الأنبياء والرسل أقاموا موتى وطهروا برصًا وشفوا مرضى، لكننا لا نقرأ عن واحد منهم فتح عيني مولود أعمى. وهذا يدل على: أن المسيح هو يهوه “إله العهد القديم”، ولو كره أو أنكر شهود يهوه، الذين ينكرون لاهوت المسيح. «قولوا لخائفي القلوب: هوذا إلهكم... هو يأتي ويخلّصكم. حينئذ تتفقح (تتفتح) عيون العمي» (إشعياء35: 4، 5). ويدل على أن المسيح هو المسيا، وهو الآتي وليس آخر. وهذا أول دليل قدَّمه الرب لتلميذي يوحنا المعمدان: «العمي يبصرون... وطوبى لمن لا يعثر فيّ» (متى11: 3-6).
ولقد شفى المسيح عميان كثيرين (متى9؛ 12؛ 20؛ مرقس8؛ 10؛ يوحنا9). فإن كان الجهل والظلام حولنا وفي كل مكان، فالمسيح هو النور الحقيقي «الذي ينير كل إنسان» (يوحنا1: 9). هو الذي وقف ونادى «أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يوحنا8: 12).
3 - مسؤولية الإنسان
عزيزي القارئ: لم يكن مرور المسيح في ذلك الطريق بالذات بلا معنى، أو بالصدفة. ولا أعتقد أن قراءتك لهذه المقالة هو بلا معنى. لكن المعنى والمغزى، هو أن الرب يحبك، ويريد أن ينير لك الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تيموثاوس1: 10). إن حكماء أثينا عندما سمعوا عن يسوع استهزأوا، أما بارتيماوس الأعمى، فلم يستهزئ وإلا كان وحده سيتحمل. ولم يؤجّل، فربما ضاعت منه الفرصة؛ وكانت فعلاً هي الفرصة الأخيرة له. لذلك صرخ الأعمى، رغم الجموع، وصرخ، رغم أنهم انتهروه ليسكت، لكنه لم يسكت، بل قام وطرح الرداء وما يحويه، فقد ألقى وراء ظهره كل ما يعطله عن الإتيان إلى النور. لقد جاء الأعمى فعلاً ولبّى نداء يسوع، وعندما سأله: «ماذا تريد أن أفعل بك؟»، حدَّد الأعمى طلبه بوضوح «أن أبصر»؛ فأبصر في الحال، والأروع أنه تبع طريق يسوع.
4 - موت المسيح هو أغلى الأثمان
يقول الكتاب إن المسيح «أنار لنا الحياة»، لكنه يسبق ذلك بالقول «أبطل الموت»، وكيف أبطله؟ لقد أبطله عندما مات هو، محتملاً الآلام. آلام عبّر عنها المسيح قائلاً: «وضعتني في الجب الأسفل، في ظلمات، في أعماق، عليَّ استقر غضبك»، وهذا تعبير عن قسوة الموت. يسأل ناحوم سؤالاً، لم، ولن، يستطع أن يجيبه أحد سوى المسيح: «من يقف أمام سخطه ومن يقوم في حمو غضبه؟». إن يسوع الذي وقف للأعمى، هو الذي وقف أمام غضب الله المُعلَن على جميع فجور الناس وإثمهم. والمسيح الذي يمنح النور، هو الذي اكتنفته الظلمة (متى27: 45). فيا له من ثمن!
وأخيرًا أيها العزيز: يا من لا ترى مصيرك الأبدي، وتتخبط بين النعيم وبين الجحيم؟ ولا تعرف إلى أين أنت ذاهب؟ والمستقبل الأبدي بالنسبة لك غير معلوم، بل غامض ومجهول؟ فها المسيح اليوم يناديك..
* أينما كنت، وكيفما كانت الأحوال.. هوذا يناديك،
* فإن كنت نظير آدم الذي أخطأ وأختبأ خلف الأشجار.. هوذا يناديك،
* أو إن كنت كمفيبوشث الأعرج والهارب تسكن في لودابار.. هوذا يناديك،
* وإن كنت تركت الدار وذهبت إلى الكورة البعيدة؛ حيث الذلٍ والشرٍ والعار.. المسيح يناديك.
لكن احذر جدًا يا عزيزي؛ لأنه ربما يكون هذا الصوت هو بالنسبة لك الصوت الأخير، والنداء الأخير!!