أسود في البيت الأبيض

اندهش العالم من وصول “باراك أوباما”، صاحب البشرة السوداء ذي الأصول الأفريقية، ليكون أول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية. لقد كان - منذ زمن ليس ببعيد - من الصعب على رجل أسود أن يتناول ولو وجبة غداء في مطعم أمريكي مخصَّص للبيض؛ والمكان الوحيد الذي تجد فيه لوحة مكتوب عليها: “هنا يجتمع الأبيض والأسود معًا” إشارة إلى البط الأسود والبط الأبيض الذي يسبح في مياه بحيرة “نيو أورليانز”. أما أنا فلم يدهشني أبدًا خبر وصول أسود إلى البيت الأبيض، بعد أن تنازلت نعمة الله لأصحاب القلوب السوداء لتؤهلهم للدخول إلى بيت الله في السماء. ولكن هذا الحدث الكبير لا يجب أن يمر علينا مرور الكرام، بل علينا أن نقف نتأمل ونتعلم، نتفكر ونتذكر. وأول ما نتذكره هو:


أبوكِ أموري وأمُّكِ حِثِّيَّة


جاء هذا القول في سفر حزقيال16: 3. وفي هذا الفصل من كتابنا العظيم يُذَكِّر الرب شعبه بأصله غير المُشَرِّف بالمرة فيقول لهم: «أما ميلادِك يوم وُلدتِ... لم تشفق عليكِ عين... بل طُرِحتِ على وجه الحقل بكراهة نفسكِ يوم وُلدتِ... كنتِ عريانة وعارية. فمررتُ بكِ ورأيتكِ وإذا زَمَنكِ زَمَن الحب... وحَمَّمْتُكِ بالماء وغسلتُ عنك دماءك... وألبستكِ... وحَلَّيْتُكِ بالحُلِيِّ... وأكلتِ السميذ والعسل... وجَمُلْتِ جدًا جدًا فصلحتِ لمملكة وخرج لك اسم في الأمم» (حزقيال16: 4-14). وهذا يذكرنا بأصلنا، فنتواضع أمام الرب وأمام الآخرين.


كان لأحد ملاجيء الأيتام تقليد خاص، فكان عندما يتقدم للملجإ طفل جديد، كانوا يلتقطون له صورة بملابسه القذرة، وشعره غير المرتب، ويحتفظون بها في ملفه حتى يوم تخرجه، يوم يحصل على أرقى الشهادات وهو يرتدي أجمل الملابس. فكانوا يقدِّمون له صورته القديمة يوم أن دخل الملجأ حتى لا ينسى أصله ولا يعتريه الغرور.


وهكذا كتب باراك أوباما مذكراته بعنوان “Dreams from My Father”، إن والده الكيني انفصل عن والدته عندما كان في الثانية من عمره ليعود الأب إلى كينيا وتصبح الأم مسؤولة عن تربية طفلها. انتقل أوباما إلى چاكارتا بعدما تزوّجت أمه طالبًا إندونيسيًا وأنجبت أخته غير الشقيقة “مايا”. وفي تلك الفترة انتظم أوباما لمدة سنتين في مدرسة إسلامية، بعدها التحق بمدرسة كاثوليكية، وقد اعتنق المسيحية حسب كنيسة المسيح المتحدة. تُوفيت بعد ذلك والدته بمرض سرطان المِبْيَض... هكذا يكتب أوباما بجرأة وشجاعة، ولا يتبرَّأ من ماضيه مهما كان.


المسيحية للجميع وليست عنصرية


إن المسيح لا يميز بين أبيض أو أسود أو أحمر. يقول الرسول بولس: «ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حُر. ليس ذكر وأنثى. لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع» (غلاطية3: 28). وهل ننسى أن أول من ضُرِب بمرض البرص اللعين هي مريم أخت موسى النبي؟ ولماذا ضُرِبَت بهذا المرض؟ أليس لأنها تكلَّمت على موسى الذي كان قد تزوج بامرأة سوداء البشرة من أرض كوش.


وعندما كان اليهود لا يعاملون السامريين، ضرب المسيح أروع الأمثلة في محبته للجميع، فتحدث مع امرأة سامرية، ولم يتركها حتى تركت ماضيها الأثيم وصارت تشهد عن المسيح المُغَيِّر العظيم (يوحنا4)؛ بل وشَبَّه المسيح نفسه بالسامري الصالح الذي يصنع الرحمة (لوقا10)؛ بل وعندما اتُّهِمَ المسيح بأنه سامري (كنوع من الاحتقار) وبه شيطان، دافع المسيح عن التهمة الثانية بأنه ليس به شيطان، ولكنه لم يدافع عن التهمة الأولى بأنه ليس سامريًا لئلا يجرح مشاعر السامريين.


البهجة والفرحة والنصرة الحقيقية


قد ينتابنا نحن البشر الغرور عندما نحرز نصرًا أو نجاحًا، ولكن النصر الحقيقي عندما نتواضع يوم الانتصار. أُخبر أحد الأساقفة عن شابة تصنع معجزات خارقة فأرسل خادمه ليتحرى الأمر. فذهب هذا الخادم، والذي كان متقدمًا جدًا في الأيام، وعندما وصل إلى الكنيسة التي تخدم فيها هذه الشابة استدعاها وعندما جاءت طلب منها أن تنظف حذاءه الذي علاه التراب. فنظرت إلى العجوز باحتقار وبتعالٍ بل وبغضب، ثم انصرفت. بعدها عاد العجوز ليخبر الأسقف قائلاً له: لا تضع قلبك على كل ما يُقال، فليست هناك معجزات بل كذب وافتراءات، فحيث لا يوجد تواضع لا توجد معجزات أو انتصارات! لقد أُعجبتُ جدًا بخطاب النصر الذي ألقاه أوباما بمقره بمدينة شيكاغو وأمام 200 ألف من أنصاره عندما أثنى على منافسه المهزوم “ماكين”، ووصفه بأنه شخص وطني، وأشاد به بوصفه أسير سابق في حرب فيتنام قائلاً عنه: “لقد قدم تضحيات لأمريكا لا يمكن تخيلها، ونحن أفضل نتيجة خدمته التي قدمها هذا الزعيم الشجاع وغير الأناني”.


تغييرات شكلية أم تغييرات قلبية؟


إن الورقة الرابحة التي فاز بها أوباما هي ورقة التغيير. لقد مَلَّت الناس حياة الحروب والإرهاب؛ رجال تُقتَل! وأطفال تتيتم! ونساء تترمل! ومدن تخرب! واقتصاد يُدَمَّر! وبمجرد أن عزف أوباما على نغمة التغيير، وجد القبول والترحيب وفاز بأعلى الأصوات.


فما هو التغيير الذي ننشده، الذي يُسعد الإنسان ويجعله يعيش في رغد وسلام؟! إن السعادة لا تأتي بتغيير ملابسك؟ ولا بتغيير بيتك أو سيارتك؟ ولا حتى بتغيير زوجتك أو معتقدك أو ديانتك؟ هذه كلها تغييرات خارجية لا تصل إلى أعماق الإنسان. لكن هناك شخص؛ لا أقول: “دين”؛ يستطيع أن يصل إلى قلبك ويُغَيِّره. لقد غَيَّر ويُغَيِّر الكثيرين، فهو الذي قال: «السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويُهلك، وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يوحنا10: 10). فقط اُنظر إلى يسوع يتغير كل شيء «ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب... نَتَغَيَّر... من مجد إلى مجد» (2كورنثوس3: 18). لقد قالها لتلاميذه واليوم يقولها لنا: «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا» (يوحنا15: 5).


القاريء العزيز، كل المُنَى بعام جديد، بفكر جديد، وقلب سعيد، وتغيير إلى الأفضل بفضل المسيح ابن الله الوحيد، الذي له كل المجد!