قضيت أوقاتًا طيبة مع رفيق غرفتي في بيت الطلبة المغتربين الذي كنت أقطن فيه أثناء دراستي الجامعية، منذ ما يقرب من عشرين عامًا. ولكني قضيت معه أيضًا أوقاتًا صعبة؛ فقد كان صديقي ورفيق غربتي وغرفتي العزيز، باسم، طالبًا في كلية التربية الموسيقية، وكانت مادة الكمان من مواد التخصص الأساسية بالنسبة له. لذا فقد كان وقت استذكار باسم لدروسه هو من أصعب الأوقات قاطبة. فما أدراك ما هي مذاكرة “الكمنجة”!! خاصة إذا علمت عزيزي القارئ أن باسمًا كان يحلو له الاستذكار والاستظهار في أوقات نومي (والتي كانت - للصدق - وفيرة). وما زاد من صعوبة الأمر أنه كثيرًا ما كان يستيقظ في الثالثة أو الرابعة فجرًا ليضع سدادات الأذن خاصته مكانها في أذنيه، ويبدأ مراجعته لدروسه! ولم يكن باسم وقتها - كما هو الآن – موسيقارًا بارعًا؛ ولكنه كان يخطو حينها خطواته الأولى في هذه الآلة الصعبة. كان يكرِّر المقطوعات التي يستذكرها عشرات المرات، حتى تغدو بالنسبة لي ألحان شتراوس وهايدن الخالدة مصدرًا دائمًا للصداع، أما مقطوعة “الرقصة المجرية” لبرامز، فقد قضيت مع باسم ساعات طويلة نستمع إليها ثم أستمع إليه محاولا إتقانها. هجر باسم الغرفة ليراجع دروسه فوق سطح المنزل، مرتديًا طاقية صوفية ومتلفحًا بملحفةٍ سميكة يتقي بها برد الفجر القارس في ساعاته الأولى، إذ كان قد ضج من احتجاجنا وشكوانا؛ فهجرنا إلى غرفة عم رزق (العامل) القديمة، ليلوذ بها من قومٍ لا يقدِّرون الفن الرفيع أمثالنا؛ وحتى حينها كنا نسمع صوت الكمان الحاد يعلو في هدأة الليل مختلطًا بأصوات صياح المساجين وحراسهم آتيًا إلينا من سجن البلدة القابع في الناحية الأخرى من الترعة، يختلط الاثنان في سيمفونية أتمنى للجميع أن يجنِّبهم الله سماعها.
اختلف الوضع تمامًا بعد أن أتقن باسم مادته، بعد وقت ليس بقليل، فصارت أنغامه تفيض رقّة وعذوبة، وكفَّ عن تشويه ألحان عباقرة الموسيقى؛ فصرت أرجوه أن يهجر ملاذه فوق السطح ليستذكر في غرفتنا، لكي أنعم بأجمل المقطوعات التي تعزفها أنامله، وهو يرفض مذكِّرًا إياي بما مضى.
وإن سألتم د. باسم، صديقي، الآن عما بدَّل الألحان الناشزة إلى أبدعها؛ لأنبأكم أن كلمة السر هي “التدريب المستمر”. وأنا على ما يقول شهيد. فليس مَن عاصر مثلي ما قاساه باسم من تعب ونعاس، برد وحر، إجهاد وإحباط... حتى حصل في النهاية على الدكتوراة!
والواقع يا صديقي أن ما ذكَّرني بهذه الأيام الخوالي هو إحساسي بحجم النشاز الصادر من حياتنا كمؤمنين. حياتنا التي يريدها لنا الرب لحنًا بديعًا، قصيدة شعرية جميلة؛ «لأننا نحن عمله (أو قصيدته الشعرية كما تأتي الكلمة في أصلها اليوناني) مخلوقين... لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها» (أفسس2: 10). قصيدة تُسعد من يستمعها، لحن سماوي جميل. ولكن عوضًا عن ذلك، تجدنا ننفِّر الكثير من السامعين بما يصدر من حياتنا من نشاز. نعم لقد أفسدنا قصيدته الشعرية البديعة بأنغامنا المزعجة:
* كلمات بطّالة بلا عدد (متى 12: 36)، كثير من كلام السفاهة والهزل (أفسس5: 4) الذي لا يليق، وكلمات كثيرة ردية عوضًا عن أن نتكلم بكل ما يصلح للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين (أفسس4: 29)؛ أو ليست هذه ألحانًا ناشزة؟!
* كثير من الكراهية بعضنا لبعض، عوضًا عن أن نظهر محبة مَن وضع نفسه لأجلنا وأوصانا أن نحب بعضنا بعضًا للدرجة التي نضع فيها نفوسنا لأجل الإخوة (1يوحنا3: 16)، لكي نظهر للعالم أننا تلاميذه (يوحنا13: 35). وكثير من المرارة والنميمة وعدم الغفران، بدلاً من من أن نكون «شفوقين متسامحين كما سامحنا الله أيضًا في المسيح» (أفسس4: 32). أوَ لسنا بذلك ننشِّز كثيرًا.
* كثير من السلوك الذي يتّسم بعدم البر، وقِلّة الاستقامة.
* نظرات شريرة، وشهوات رديّة، وعواطف ناشزة غير منضبطة، ورغبات منفلتة غير محكوم عليها.
* انفعالات زائدة، وكلمات جارحة وقاسية، وعدم احتمال.
* افتخار غبي، وإعجاب بالنفس، ورغبة في تمجيد الذات.
وغيرها من الألحان الناشزة الكثير. والسر- كما استخلصت عزيزي القارئ بالتأكيد مما سردته من ذكريات- هو قلة تدريبنا في محضر الله. قال أحد مشاهير الموسيقيين مرة لمن حوله: “إن أهملت تدريبي يومًا واحدًا ألاحظ أن هناك خللاً ما في عزفي، وإن أهملته يومين لاحظت زوجتي ذلك، أما إن أهملت التدريب ثلاثة أيام فسرعان ما يلاحظ كل من له أذن موسيقية نشازًا في عزفي”. والحقّ أن التدريب الروحي في محضر إلهنا بالتواجد المستمر في محضره أمام كلمته وفي صلاة كل حين بلا ملل - وهو ليس تدريبًا سهلاً - كثيرًا ما نُقلع عنه، لما يتطلبه الأمر من تعب وصبر وجهاد وحكم مستمر على الذات. وهذا الإهمال سرعان ما يظهر أثره في نشازٍ مزعج يلحظه أولا المقرّبين منا، ثم لا يلبث أن ينزعج منه الروحيون، ثم يبدو جليًا للجميع.
قيل عن بعض المؤمنين الناضجين إنهم بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر (عبرانيين5: 14). ألا تلحظ معي يا صديقي خطورة الأمر؟ إن من لا يتدرب تدريبًا كافيًا تضعف حواسه الروحية، ويقل تمييزه، فيختلط عنده الحابل بالنابل، وتعزف حياته ألحانًا ناشزة، يفسد بها القصيدة الإلهية البديعة.
صديقي: إنّ تكاسُلنا وتساهُلنا قد أخرجا من حياتنا نشازًا وإزعاجًا!
وحقيقة الأمر أننا لا نبذل كل اجتهاد كما أوصانا الكتاب، ولا حتى بعضٌ منه. إننا أكسل من أن نبذل ما يكفي من الاجتهاد مما يلزم لعزف الألحان الإلهية التي وضعها شخص المسيح، والتي يريدنا أن نعزفها بلا نشاز، بمعونة المعلّم القدير: الروح القدس. نعزف فضيلة ومعرفة، ونجيد عزف التعفف، ولا نألو جهدًا في أن نتدرب على مقطوعة الصبر فهي من أصعب المقطوعات ينشز معظمنا في عزفها، ولنتدرب أيضًا كي نجيد لحن التقوى والمودة الأخوية والمحبة، فما أروعها من ألحان شجية (2بطرس1: 5-8).
ألا نعود بتوبة إلى إلهنا ونحكم على ذواتنا وعلى كل ما قد نشز فينا. فلندَعه يضبط أوتارنا، وهو المبدع الجميل، لكي يعزف عليها ألحانه السماوية البديعة، فيظهر فينا قصيدته الشعرية الجميلة.