عادت الباخرة بعد انتهاء الحرب إلى أحد الشواطئ الأميريكية تحمل عددًا من الأسرى والجرحى وقد ساءت حالتهم جدًا حتى اليأس. وكان من بين الجرحى جُندي جريح في الثانية والعشرين من عمره اسمه چيمس. وكان چيمس قد نشأ في أسرة غنية وتعوَّد حياة الرفاهية ولبس الثياب الناعمة، لكن الحياة العسكرية لم تغيِّر ملبسه فقط بل أيضًا غيَّرت هيئته وشكله، بالإضافة إلى منظر الجروح والقروح الغائرة في جسمه بسبب القتال وطلقات الرصاص والألغام وشظايا القنابل والدبابات. ولقد علم چيمس أن أخاه الأكبر وليم سيكون على رصيف الميناء لانتظاره. لكنه أخذ يفكر كيف يمكن لأخيه أن يعرفه وهو في هذه الحالة البائسة الرهيبة؟! وكان چيمس قد حكى لزملائه عن أخيه وليم وكيف يعيش حياة الرفاهية والتنعم، ويمتلك بيتًا كبيرًا توفرت فيه كل وسائل العيش الرغد. ثم أخذ يسأل نفسه ورفقاءه: كيف يمكن أن يرحبوا بي في هذا الوضع؟! لقد تغيَّرت حالتي كثيرًا بحيث أن وليم لن يعرفني! وحتى لو عرفني فإنه سوف لا يأخذني معه... أشعر أنه من الأفضل لي ولوليم أن يأويني في مستشفى مرة أخرى ليسلمني بعد ذلك إلى القبر. وكان يبكي وهو يتفرس في الصورة المشوهة التي صار عليها.
ما أن لامست الباخرة رصيف الميناء حتى صعد إليها رجل قوي البنية جميل الصورة تبدو عليه علامات الثراء والقوة. إنه وليم شقيق چيمس المجروح، وقد كان وليم في انتظار الباخرة لمدة تزيد عن أربع ساعات كاملة، وكانت معه عربة فخمة أعد فيها وسائد لينة وأغطية لتحمل أخاه إلى القطار ثم إلى المنزل. مرَّ وليم بجانب چيمس لكنه لم يتعرف عليه. لقد تقززت نفسه وهو يتطلَّع إلى ذلك المُلقَى البائس؛ قروح ودماء في فمه وأنفه، وجهه متنفخ، وشعره غير مرتب، وجبهته ملفوفة بالأربطة، أقدام عارية كلها أورام، مجموعة من الملابس القديمة الملوثة تكسو جسده؛ مما جعله يتحوَّل مُشمئزًّا مكروبًا. ذاب قلب چيمس، ذلك الشاب التعس، وقال في نفسه: هذا هو ما كنت أتوقعه؛ أن وليم لن يعرفني وسيشمئز من منظري. ولم يجد لديه الشجاعة الكافية أن يكلمه. للمرة الثانية والثالثة اجتاز وليم بين ركاب الباخرة ولم يهتدِ إلى أخيه، وظن أنه قد مات أثناء الرحلة. وللمرة الأخيرة أخذ يتفحَّص الجنود واحدًا واحدًا دون أن يتعرَّف عليه. وبينما كان مزمعا أن يتحوَّل ويرحل سمع صيحة مُرَّة: “ألا تعرفني يا وليم؟!” قالها چيمس الجريح بشفاه مرتعشة وهو يستجمع أنفاسه بكل قوة. “أخي الحبيب چيمس! لماذا لم تتكلم من قبل؟!”، هكذا كان جواب وليم لأخيه. ثم حمله في الحال إلى العربة، بجراحه وأوجاعه وشناعة منظره. ووضع تحت تصرفه كل قوته وثروته وكل ما يملك؛ فهو أخوه الذي يحبه بالرغم من كل شيء.
عزيزي القارئ.. عزيزتي القارئة.. كان چيمس يشك في قبول وليم له، بل يشك في معرفته له وهو يتسائل: هل سيعرفني أخي؟!
لكني أخاف أن تكون أنت أيضًا، كما كنتُ أنا قبلك، تشُك في قبول المسيح لك بسبب خطاياك وما سببته من جروح رهيبة إذ مكتوب: «لأَنَّهَا طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ» (أمثال7: 26). لكن دعني أقدم لك هذا الخبر السار: إن محبة الرب يسوع هي لنا بالرغم من كل ما نحن فيه.
أولاً: المحبة واتجاهها
1- محبة فضلاً: «أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً لأَنَّ غَضَبِي قَدِ ارْتَدَّ عَنْهُ» (هوشع14: 4).
2- محبة بالرغم من: «أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا. لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ... لَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا... لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ...» (رومية5: 5-12).
3- محبة للخطاة: «جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (متى11: 19).
4- محبة مُبادرة: «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يوحنا4: 19).
5- محبة للمنتهى: «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يوحنا13: 1).
6- محبة تُقدِّرنا: «فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ» (مرقس10: 21).
7- محبة متبادلة: «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي» (يوحنا14: 21).
ثانيًا: المحبة وعملها
1- محبة تُغيِّر: «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس5: 13).
2- محبة تشفي: «يَا سَيِّدُ هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يوحنا11: 3).
3- محبة تُقَدِّس: «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ» (أفسس5: 25).
4- محبة تغسل: «وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ... الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا1: 5).
5- محبة تُفرِّح: «أَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ» (نشيد2: 4)
6- محبة تصادق: «اَلْمُكْثِرُ الأَصْحَابِ يُخْرِبُ نَفْسَهُ وَلَكِنْ يُوجَدْ مُحِبٌّ أَلْزَقُ مِنَ الأَخِ» (أمثال18: 24)
7- محبة تنصر: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ، قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية8: 37).
فهل تصلي معي؟!
يا من جُرِحتَ لتشفي قلبي الجريح، أقبلك أيها الفادي المسيح، فخلصني ففي حضنك أستريح، لأعيش كل أيامي لك في تهليل وتسبيح! آمين!