تذكرتُ لعبة رياضية طريفة شاهدتها، كان وراءها درس هام. واللعبة هي سباق جري ولكن ليس بالمفهوم التقليدي. فبعد أن يتم تحديد خَطَّي البداية والنهاية للاعبين، يُطلَب من كل متسابق، قبل بدء السباق، أن يدور حول عصا مُثبَّتة في الأرض عشرة مرات، ثم ينطلق محاولاً الوصول أولاً. والمُضحك هو ما شاهدناه: فولا واحد من المتسابقين سار في خط مستقيم، ولا سار في اتجاه خط النهاية، بعضهم سار بالعرض، وآخرون تعثروا في الطريق، وانحرف المسار، فضاع الهدف. وبسؤالهم عن ما خرجوا به من التجربة، اتفقوا على أمر واحد، وهو أن البداية الخاطئة كانت كفيلة بأن تبعدهم عن النهاية المَرجوَّة.
وقد أعادت هذه التجربة إلى ذهني حقيقة هندسية، وهي أن انحراف خط عن آخر، ولو بزاوية صغيرة جدًّا، لا بُد وأن ينتج عنه ابتعاد بين الخطين، يزداد هذا التباعد مع ازدياد الطول. وهذا هو التفسير العلمي لكون كرة أخطأت المرمى، أو طلقة لم تُصِب الهدف؛ ففي كلتا الحالتين، كان السبب هو انحراف في البداية بزاوية صغيرة عن الخط الواصل بين نقطتي البداية والنهاية.
ولعل ما سبق يعطينا صورة كافية عن أهمية البداية في أول أي مشوار: في بداية سنة دراسية، في بداية مرحلة عمرية، في بداية علاقتي بالله، في بداية صداقة؛ في أية بداية. لذا دعني أشاركك ببعض الأفكار عن هذا الموضوع من بدايات ثلاث شخصيات ناجحة في الكتاب المقدس.
بداية يوشيا
اقرأ قصته في 2أخبار34، 35. لقد بدأ في ظروف سيئة، بعد فشل رهيب من أبيه وجده إذ فعلا الشر في عيني الرب. ومع ذلك فقد نجح هو نجاحًا عظيمًا وأكرم الرب إكرامًا عظيمًا، فنال تقريرًا رائعًا أنه «عَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ»، وأن «كُلُّ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْمَلُوا كَالْفِصْحِ الَّذِي عَمِلَهُ يُوشِيَّا». لذا فمن المناسب أن نحاول تعلم بعض الدروس من بدايته.
للرقم 8 مكانة خاصة في حياة يوشيا، و8 هو رقم البداية الجديدة؛ فاليوم الثامن هو بداية الأسبوع الجديد، والنوتة الموسيقية الثامنة هي بداية السلم الموسيقي الجديد، وهكذا. ولبداية يوشيا في سن 8 سنوات مغزى مهم يجعلني أسألك سؤالاً: هل بدأتَ البداية الحقيقية مع الله؟ هل اختبرتَ الولادة الجديدة؟ إني لا أسألك شيئًا عن أسرتك أو تربيتك أو ما عملت، بل أسألك عن بداية جديدة مع الله عند صليب المسيح معترفًا بخطاياك نائلاً الغفران بعمل دم الصليب. فهل بدأت معه حقًا؟! وبالنسبة ليوشيا، فبعد 8 سنوات أخرى، وعمره 16 سنة، بدأ مرحلة جديدة من حياته. لقد ابتدأ يطلب الرب إله داود أبيه؛ فقد أصبح لا يرضى بمجرد معرفة سطحية عنه، ولا عاد يكفيه اتِّباع الرب من خلال آخرين؛ بل لم يعد يكفيه إلا أن يعرف الرب معرفة شخصية حقيقية. صديقي، هل تتمتع بهذه العلاقة الحية مع إلهك؟ لا تكتفِ بأن تسمع عنه في الاجتماعات الروحية فقط، بل اطلب منه أن يكشف لك عن ذاته شخصيًّا! دعه يكون رفيق رحلتك! إنه الصديق الألزق من الأخ، والرفيق الذي يحلو معه الطريق. إن بدأتَ تلك البداية، فنعمَ المسير.
ثم إن يوشيا، بعد ذلك، ابتدأ يُطهِّر مملكته من كل ما يُغضب الرب. ونحن مع بداية مرحلة جديدة من العمر علينا أن نُطهِّر حياتنا. دعني أقولها لك، كما يقولونها بالعامية المصرية: “نبتدي على نظيف”. نظف حياتك من علاقات لاتُرضي الرب، من هوايات، أو عادات، أو مواقع إنترنت، أو نكات؛ من كل ما يشير لك عليه الرب أنه لا يرضيه. في كل مجالات حياتك تعلَّم أن “تبدأ على نظيف”.
بداية سليمان
أما سليمان، ففي بدايته (اقرأ القصة في 2أخبار1) تراءى الله له سائلاً: «اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ»، فكانت إجابته: «أَعْطِنِي الآنَ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً». وهذا ما ميَّز حياته بالفعل، وبل وميَّز كتاباته في سفر الأمثال أيضًا. ونحن نحتاج إلى الحكمة في حياتنا، فكم من قرارات حمقاء اتخذناها فأضاعت سنوات من عمرنا، وقرارات حمقاء أخرى مرَّرت حياتنا، والخوف أن هناك قرارت حمقاء قد تضيِّع العمر كله. والحكمة النازلة من فوق، من عند الله، تعطينا أن نتخذ القرار المناسب، وننفذه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب؛ فنصل إلى أفضل النتائج. ونحن لا نولد حكماء، بل يقول الكتاب: «أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ» (أيوب11: 12). ولكن اسمع البُشرى: «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب1: 5). فلنطلب إذًا!
الغرض الثابت
في قرية صغيرة، رأيت صبيًّا صغيرًا يقود المحراث، يُقسِّم الأرض إلى خطوط طولية. ظننت أن هذه الخطوط ستكون شديدة التعرج لصغر سن الصبي وقلة خبرته. لكن لعجبي فقد أنتج الصبي خطوطًا مستقيمة. سألت: كيف أنجز هذا العمل بهذه الدقة وهو بهذه العمر الصغيرة؟ فعلمت أنهم يعلمونه، من يومه الأول في العمل، أن يثبِّت نظره على شيء ثابت، وفي هذا الضمان لاستقامة الخطوط. وفي الجيش يعلمون المتجند، أول ما يعلمونه، هذه العبارة الشهيرة: “خذ غرضًا ثابتًا!”. فهل لك في الحياة هدف تثبت نظرك عليه لتضمن استقامة خطوط حياتك، فلا تتعرج ولا تنحرف عن الهدف؟
لقد كانت هذه فلسفة الرسول بولس: «أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا... أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ (نحو الهدف)» (فيلبي3: 13، 14)، ولقد بدأ البداءة الحسنة بقوله: «يَارَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال9: 6)، لذا أمكنه في النهاية أن يقول: «أَكْمَلْتُ السَّعْيَ... وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا» (2تيموثاوس4: 7، 8). ما أروع نهاية كهذه، تليق ببداية كتلك التي ذكرناها!
هيا يا صديقي ابدأ البداءة الحسنة، واصحُ في كل شيء، وصلِّ لإلهك أن يحفظك كل الطريق حتى النهاية! يومها يكفيك أن تسمع من فمه كلمات المدح.