3- ماذا حدث بعد سقوطه؟
رأينا في المقالتن السابقين الشيطان، ذلك الكروب المُنبسِط المُظلِّل، الملآن حكمة وكامل الجمال، الذي كان على جبل الله المُقدَّس، في أقرب مكان لله؛ وكيف ارتفع قلبه، وأفسد حكمته، إذ قال في قلبه: أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله، أجلس على جبل الاجتماع، أصير مثل العلي. فكانت النتيجة أنه طُرح إلى الأرض، وانحدر إلى أسافل الجب، وسقط من عليائه. وعلى قدر ما كان مركزه رفيعًا، كان سقوطه عظيمًا (حزقيال28؛ إشعياء14).
وعندما سقط لم يجلب الدمار على نفسه فقط، بل على كل مملكته وجنوده الذين شاركوه هذا التمرد؛ فسقطوا معه وطُرحوا إلى الأرض. وكان ذلك قبل خلق الإنسان بزمان. وينحصر تاريخ هذا السقوط بين خلق السماوات والأرض، في بداية الزمن، في ماضٍ سحيق غير مُحدَّد؛ وبين خرابها وإعادة ترتيبها وتنظيمها وتعميرها مرة أخرى في ستة أيام الخلق. فنقرأ القول: «في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظُلمة. وروح الله يرف على وجه المياه» (تكوين1: 1، 2). في العدد الأول نرى السماوات والأرض في نظام مُستَكمَل بديع، وتوافق عجيب لا يُعكِّره أو يُكدِّره شيء. لقد خلق السماوات بشموسها وأقمارها ونجومها وأجرامها التي لا حصر لها ولا استقصاء لأبعادها وأحجامها. كما خلق الأرض مُبهِجة ومُناسِبة للسكن. فهو «لم يخلقها باطلاً (أي خربة وخالية)، بل للسكن صوَّرها» (إشعياء45: 18). تلك كانت صورة الكون يوم أتقنته حكمة الله، وأبدعته قدرته السرمدية. وقد ترنَّمت لرؤياه كواكب الصبح وهتف جميع الملائكة (أيوب38: 7). وفي العدد الثاني نقرأ القول: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظُلمة». لا شك أن عدوًا خطيرًا فعل هذا، وأن هذا التخريب هو شيءٌ طارئٌ عليها وليس أصيلاً في خلقها. إننا نرى هنا أرضًا بلا سماء، أرضًا مدفونة تحت غمار المياه الطامية الهائجة. وعلى وجه هذا الغمر ظُلمة تغطي المشهد كله. ونستنتج أن كارثة كونية رهيبة أصابت هذه الصورة الجميلة التي بَدَتْ فيها الخليقة أولاً، فأمست الأرض خربة وخالية.
ولا شك أن الخراب والخلاء والظلام هو عمل قضائي يرتبط بالشر، والشيطان هو ”سلطان الظلمة“. فنقرأ، على سبيل المثال، عن القضاء الآتي على أرض أدوم هذه الكلمات: «يمد عليها خيط الخراب ومِطمار الخلاء» (إشعياء34: 11). وأيضًا عن القضاء الآتي على أرض إسرائيل يقول: «نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية، وإلى السماوات فلا نور لها» (إرميا4: 23).
وعلى الرغم من أن الكتاب صَمَتَ ولم يخبرنا عما حدث في ذلك الزمان الغابر، لكن يمكننا استنتاج أن الشيطان، وهو العدو الأول لله، والذي يريد أن يُتلف كل ما يعمله لمجده ومَسَرته، ويُفشِّل كل مشروعاته، هو الذي أدخل هذا التشويش والدمار والظلمة على المشهد عندما سقط. ونحن نقرأ عن الشيطان هذه الكلمات: «أ هذا هو الرجل الذي زلزل الأرض وزعزع الممالك، الذي جعل العالم كقفر وهدم مدنه؟» (إشعياء14: 16، 17). وهذا النص الواضح يؤكِّد أن الشيطان هو السبب المباشر لهذه الكارثة التي مَحَت كل صور الحياة من الأرض.
ويجب أن نفهم أن هناك فاصلاً دهريًا كبيرًا بين العدد الأول والعدد الثاني من الأصحاح الأول من سفر التكوين، تعاقبت فيه عصور جيولوجية. ولقد كانت هناك، في عالم ما قبل الخراب، صورٌ من الحياة، ولكن لم يكن هناك إنسان. فالكتاب يقرِّر بوضوح أن آدم هو «الإنسان الأول» (1كورنثوس15: 45)، وقد خُلِق في اليوم السادس من أيام الخلق (تكوين1: 26، 31)، عندما بدأ الله يعيد ترتيب الكون وتعمير الأرض. ويمكن استنتاج عُمر الإنسان أنه تجاوز ستة آلاف سنة، أما عمر الأرض فأقدم من ذلك. وهذا ما قاله الكتاب عن ابن الله الخالق: «من قِدَم أسستَ الأرض، والسماوات هي عمل يديك» (مزمور102: 25). وهذا ما أثبتته الحفريات. فقد كانت هناك حياة نباتية وحيوانية في أحقاب مختلفة سحيقة القدم. والإشارة إلى ”الغمر“، أو المياه الغامرة، يؤيد وجود الحياة على كوكب الأرض في تلك الأحقاب، فلا حياة بدون مياه، والأرض هي الكوكب الذي يتميَّز بوجود المياه. لقد خلق الله الكائنات على أطوار متدرجة في الارتقاء، وكل طور كان يعيش عصره ثم يندثر ليفسح المجال لفصيلة أخرى من الكائنات. وخلال تلك الأحقاب تكوَّنت سلاسل الجبال بكل ما تحويه من كنوز دفينة بقيت لخير الإنسان. وإلا فأين نجد في ستة أيام الخلق ذكرًا لتكوين الصخور النارية والرسوبية والتحولية؟ وارتفاع سلاسل الجبال وآثار النظم النهرية؟ وأين نجد المخلوقات العضوية من بحرية وبرية، نباتية وحيوانية. إن هذا الفاصل الدهري يُفسِّر الكثير من الاكتشافات العلمية والجيولوجية في العصر الحديث.
ولكن لماذا سمح الله للشيطان أن يُخرِّب الأرض بهذا الشكل المُخيف؟ إن الله هو صاحب السلطان المطلق، ولا يوجد مَنْ هو أقوى منه، وحاشا أن يُغلَب من الشيطان، لكنه يستخدمه ليُنجز مشيئته كاملة الإتقان. فيرى البعض أن الشيطان قد استخدم كل قوته وجبروته وغضبه في تخريب الأرض، ولكن بسبب هذا الخراب حدثت تغيرات في طبقات الأرض، وارتفع إلى الطبقات العليا من القشرة الأرضية الكثير من الثروات والخزائن المدفونة من المعادن والمواد العضوية مثل الذهب والفضة والأحجار الكريمة والبترول وغيرها. ولولا هذا الخراب الذي حلَّ بالأرض، ما استطاع الإنسان أن يصل إلى باطن الأرض ليستفيد من مخزونها العظيم. وهكذا نرى أن الله يغلب الشر بالخير، ويُحوِّل الدمار إلى بركة لفائدة الإنسان الذي يحبه.
يُتبَع