"كسوف الشمس"؛ تعبير سرى على الألسنة والأفواه، وتناقلته الأقلام ووسائل الإعلام، وترقبته ملايين العيون والأبصار، وشغل حيزًا ضخمًا من أفكار الناس، ما بين محذر ومنبهر. فقد كان كسوف يوم 11 أغسطس الماضي هو آخر كسوف كلى تشهده الأرض في القرن الحالي والذى أوشك على الانتهاء.
والكسوف ظاهرة جذبت اهتمام البشر على مر العصور، فاجتهد الذهن البشرى في تفسيرها. وقد اعتقدت شعوب شرق آسيا قديمًا أن الكسوف هو نتيجة لأن التنين (روح الشر العظمى) قد استطاع أن يبتلع الشمس (رمز الحياة والخير)، لذلك فهم يقرعون الطبول والصفائح محدثين ضجة شديدة في وقت الكسوف لإرهاب التنين ليخرج الشمس من بطنه!! كما اعتقد الفراعنة قديمًا أن الكسوف هو نتيجة للحرب المستمرة بين إله الشر (ست) وإله الشمس (رع) فإذا أفلح إله الشر في أن يأخذ عين إله الشمس أظلمت وحدث الكسوف حتى يسرع أحد الآلهة الأخرى لنصرة رع وإعادة عينه إليه!!
وتطورت نظرة الإنسان مع تقدم اكتشافاته، في مجال علوم الفلك بصفة خاصة، حتى وصل إلى معرفة مسبب هذه الظاهرة الطبيعية. والأمر، في لغة مبسطة، يتم هكذا: تدور الأرض حول الشمس في مسار بيضاوي، كما يدور القمر حول الأرض في مسار بيضاوي أيضًا. ومع أن قطر الشمس البالغ 1400كم يعادل 400 ضعف لقطر القمر، فإنها تقع على مسافة من الأرض أبعد 400 مرة تقريبًا من المسافة بين الأرض والقمر؛ مما يجعلهما يبدوان لنا في حجم متقارب. فإذا حدث أن كان موقع القمر في مسار الضوء الساقط من الشمس إلى الأرض (كما هو موضح بالرسم) حدث الكسوف، والذى تتدرج شدة إظلامه ما بين الكسوف (الإظلام) الكلى، ويرى في شريط ضيق على الأرض، ويسمى مسار الإظلام التام path of totality، والذى يتأثر بما يسمى مخروط ظل القمر umbra. وتقل درجة الإظلام كلما بعدنا عن هذا الشريط، لذا فقد شاهدنا الكسوف في مصر جزئيًا، أي بنسبة مخففة جدًا من الإظلام.
وبعيدًا عن الاستغراق في التفاصيل العلمية؛ أثار الكسوف بعض الأفكار عندي أحدثك في ثلاث منها:
1- فزع البشرية
أثار الكسوف كمًّا هائلاً من المخاوف والتحسبات، فلازال الظلام يثير رعب في القلوب التي لم تعرف السلام الحقيقي. وحتى العلم والتقدم الذى وصل إليه الإنسان لم يستطع أن يدخل الطمأنينة إلى قلبه، بل لعلها زادت مخاوفه من مضار مثل هذه الظاهرة. ومما أزاد من حدة القلق والتوتر، تزامن الكسوف مع مخاوف العالم من تحقق نبوءة عرّاف فرنسي قديم شهير يُدعى نوستراداموس، ادّعى أن هذه الفترة من التاريخ ستشهد أحداث مدمرة في العالم. كذلك فقد واكب الكسوف القلق الشديد في العالم من مشكلة عام 2000، والتي يتوقع البعض أن تسبب الكثير من الارتباك لكل ما تتعامل معه أجهزة الكمبيوتر إلى حد قد يصل إلى الشلل التام.
وقد اعتقد البعض أن في كسوف الشمس هذا ستتم نبوات من الكتاب المقدس عن نهاية العالم إذ أساءوا تطبيق بعض نبوات الكتاب مثل النبوات الواردة في يوئيل 2: 30-31، إشعياء13: 9 -10؛ فأفزعهم ما يحدث. إن كان ذلك حالهم أمام ظاهرة عابرة، فماذا يكون حال كل من لم يحتمِ في المسيح، يوم يواجهون غضب الله، ومن يستطيع الوقوف يومها؟!
وبغض النظر عن التفاصيل، فإن رعب العالم هذا يؤكد صدق المكتوب أنه « لا سلام قال الرب للأشرار» (إشعياء 48: 22). وكل الاستعدادات والتحصينات الحديثة لا تستطيع أن تبعث السلام في القلوب. فمادام « رئيس السلام» (إشعياء9: 6 ) ليس هو رب الحياة، فلا سلام.
صديقي، عند مرجئ المسيح إلى الأرض ترنمت الملائكة بالقول « وعلى الأرض السلام»، وإذ يجيء المسيح بالإيمان إلى قلبك تختبر معنى السلام مع الله (رومية 5: 1)، وليس أعظم من هذا سلام. إن إله السلام (رومية 16: 20) هو معطى السلام (يوحنا14: 27 )؛ إن قبلته تجد السلام وسط كل الظروف، وتتخلص من المخاوف والقلق.
2- الغضبة الإلهية
لعلك تذكر يوم أظلمت فيه الشمس (لوقا 23: 45)، فغطت الظلمة وجه الأرض.
لم يكن كسوفًا، فقد كان ذلك في عيد الفصح، أي في الرابع عشر من الشهر القمري، حين يكون القمر بدرًا وفى أبعد نقطة من مساره عن وضع الكسوف. كما أن هذه الظلمة كانت على كل الأرض (متى 27: 45)، واستمرت ساعات ثلاث (مرقس 15: 33)، في حين أن الكسوف لا يغطى إلا جزءًا محدودًا ولفترة أقل من 8 دقائق.
فماذا كان ذلك إذًا؟!
لقد كان سيدى يجتاز الظلمة، ليس ظلمة غياب الشمس فقط، بل ظلمة أعمق جدًا، كان عدل الله يقتص منه أجرة خطيتي وخطيتك. يومئذ، في الجلجثة، لم يكن من الممكن أن يشهد أحد هذا المشهد، والرب يدفع الدين الرهيب، فأظلمت الدنيا، لتعلن أن أمرًا عظيمًا يحدث. لقد جاز تلك الظلمة كي « يضئ على الجالسين في الظلمة» (لوقا 1: 79) وينقل من يؤمن به « من ظلمات (الخطية) إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله» (أعمال 26: 18)، ولكى يعفى كل من يسلمه الحياة من الطرح في الظلمة الخارجية عقوبة خطاياه (متى 22: 13).
عزيزي؛ لماذا تبقى في الظلمة وقد جازها المسيح نيابة عنك؟! أسرع إليه الآن.
3- الشهادة المطفية
في علاقة الشمس والقمر والأرض، نستطيع أن نرى تشبيهًا واضحًا لشهادة المؤمن. فالقمر جسم معتم في ذاته، لكن إذ يواجه الشمس فإنه يعكس أشعتها إلى الأرض فينير ليلها. هكذا المؤمن ينبغي أنه من خلال شركته مع الرب، يعكس المسيح لينير العالم في ظلامه. لقد قال الرب « أنتم نور العالم» (متى5: 14)، ويخبرنا بولس أننا رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس (2كورنثوس3: 2 -3)؛فكيف للعالم الغارق في ظلمته أن يعرف المسيح ما لم يره فينا ويسمعه منا؟!
لكن القمر معرض لأمرين، وكذلك شهادتنا. الأول أن تأتى الأرض بينه وبين الشمس فيحدث ما يسمى بخسوف القمر، فيخبو نوره. هكذا إذ يشغل العالم، بمسراته ومشاغله، المؤمن عن التمتع الحقيقي بالرب والشركة معه، يفقده نوره ويطفئ شهادته، فيصير كلوط غير قادر على أن يوصل رسالة الله إلى الآخرين (تكوين 19: 14).
الأمر الثاني أن يأتي القمر نفسه بين الشمس والأرض، فيحجب ضياءها. وكذلك إن سعى المؤمن أن يقدم نفسه للناس، راغبًا في الافتخار بما له، غير منكر لذاته، فإنه لا يكون مظلمًا فقط، بل إنه يكون معثرًا للآخرين أيضًا.
ليتنا كمؤمنين، نسعى من خلال الشركة الحقيقية مع الرب وإنكار الذات، أن نعكس أشعة نور المسيح، فنكون سبب بركة لنجلو ظلمة ليل العالم.