تسمعها إذا سألت عن عنوان، فتكون الإجابة “امشي كده دوغري”!! أو من أبٍ يحاور ابنه بعد أن ساق له حججًا واهية، فيقاطعه الأب بابتسامة خبيرة: “قول لي الحقيقة وأدخل معايا دوغري”!! هي كلمة عثمانية الأصل، ومعناها “مستقيم” أو “صحيح”. وهنا حري بنا أن نتناولها بشكل روحي مختصر، لكي نعرف كيف نسير “دوغري” مع إلهنا “الدوغري”!!
“دوغري” والإله!من السهل على أي قارئ مبتدئ للكتاب المقدس، أن يدرك تمامًا أن المصدر الأول للاستقامة هو الله؛ فهو لا يعرف في أفعاله أو أفكاره أي ميل أو حَيَدان، لأن «اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ» (مزمور25: 8). فعندما يوصي الله بوصايا، فهي لخير الإنسان وبركته وسعادته، لأن «وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ» (مزمور19: 8). وعندما يعطي عطايا، فلكي تساعد الإنسان أن يحيا حياةً تقوية مستقيمة «قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور51: 10). وأحكامه العادلة البارة، فيُقال عنها «بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ» (مز119: 128). فإلهنا “دوغري” في صفاته ووصاياه وعطاياه وأحكامه، وإن لم يكن هكذا، فهو ليس الله!!
ولأن الله مستقيم، فإنه يحب المستقيمين، ودائمًا عينه عليهم «يَذْخَرُ مَعُونَةً لِلْمُسْتَقِيمِينَ» (أمثال2: 7)، ويأتمنهم على أسراره «لأَنَّ الْمُلْتَوِيَ رَجْسٌ عِنْدَ الرَّبِّ، أَمَّا سِرُّهُ فَعِنْد الْمُسْتَقِيمِين» (أمثال3: 32). فما أحوجنا أن نكون مستقيمين، ليس في الصلوات والعظات والمؤتمرات فقط، ولكن في المدارس والوزارات والكليات؛ فمجتمعنا “الغير دوغري” يتعطش للمؤمن “الدوغري” الذي يتقي إلهه “الدوغري”!!
“دوغري” والنفاق!وهنا علينا أن نَحَذر من أمرين قد يفقدانا استقامتنا الروحية والأخلاقية، التي يريدها لنا الله؛ الأمر الأول هو النفاق. والمنافق ليس فقط الإنسان الذي يُظهِر غير ما يبطن (فهذا هو المرائي)، ولكنه أيضًا يزيد بأنه يمكن أن يغيِّر كلامه أو سلوكه، تحقيقًا لمصلحةٍ مادية أو معنوية. ولهذا يكثر المنافقون بجوار أصحاب السلطة والمال، أملاً في شهرةٍ أو ثروةٍ أو صيتٍ أو جاه.
ولكن إذا استطاع المنافقون، في المجتمع، أن يشغلوا أعلى المناصب، ويقفوا على أعظم المنابر؛ فإنه لا مجال للمنافقين في أمور الله الروحية، «فَإِنَّ طُرُقَ الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَالأَبْرَارَ يَسْلُكُونَ فِيهَا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُون فَيَعْثُرُونَ فِيهَا» (هوشع14: 9). ومثالاً لهؤلاء؛ سيمون (أعمال8)، والذي كانت له مصلحة معنوية في أن يجمع الناس كبارًا وصغارًا ليندهشوا من أعماله السحرية، وكانت له مصلحة مادية في أن تمتلئ جيوبه من أموالهم، لكن جاء فيلبس للسامرة؛ فانفضَّ عنه الناس، فطمع في أي وسيلة (ولو كانت روحية) لكي يحقق مصالحه اللئيمة.
«وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي الرُّسُلِ يُعْطَى الرُّوحُ الْقُدُسُ قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ، قَائِلاً: “أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضًا هذَا السُّلْطَانَ، حَتَّى أَيُّ مَنْ وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ الرُّوحَ الْقُدُسَ”»، فكان الرد الفوري من بطرس «لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ، لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللهِ بِدَرَاهِمَ! لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِي هذَا الأَمْرِ، لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيمًا أَمَامَ اللهِ»، فأمور الله لا يمكن أن تحكمها مصالح البشر المنافقين، ولكن تحكمها مشيئة الله!!
ولهذا فعلينا أن نحذر من أن يتسرب النفاق إلينا، فنطلب أمورًا روحية سامية، ونشترك في خدمات وأنشطة ذات أهداف نبيلة، ولكن قلوبنا تكون غير مستقيمة، وتبغي مصلحة جانبية، غير أهداف ومشيئة الله الأصلية؛ فإلهنا مستقيم، ويجب أن تكون قلوبنا ودوافعنا أمامه مستقيمة و“دوغري”!!
“دوغري” والالتواء!الأمر الثاني الذي يجب أن نتحَذر منه؛ هو الالتواء. والعجيب أن الملتوي يرى أنه يسير في الطريق المستقيم الصحيح، وأنه لا يحتاج لأحد أن “يُعدِّل” عليه حياته، فتتم فيه الآية «كُلُّ طُرُقِ الإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةٌ فِي عَيْنَيْهِ، وَالرَّبُّ وَازِن الْقُلُوبِ» (أمثال21: 2). ورغم أن ضميره المُشتكي يشهد أنه ملتوٍ؛ فإنه يُلقي باللوم الدائم على الله، ويظن أن الله “يستعنده”، ويرفض مساعدته، ويسد الطرق أمامه، ويشعر أن الخطأ عند الله وليس عنده هو، فلا يخرج من فمه إلا التذمر، ولا تظهر من هيئته سوى المرارة والشكوى. فمن يسلك بالاعوجاج والالتواء أمام الله، يرى نفسه أنه هو المستقيم، وأن الله هو الملتوي!! (مثل السكران الذي ينظر لغيره وكأنه هو الذي يترنح!!) والواقع أن الله في رحمته قد يمنع عنه البركة، ويحرمه من الخير، حتى يتوب عن شره، ويرجع عن التوائه.
ومثال لهذا الالتواء الذي يُضاد استقامة الله العلي، كان موجودًا في الفريسيين، والذين مارسوا مع المسيح كل التواء ممكن، فرغم أن المسيح كان للتو قد انتهى من أكبر آية يمكن أن يشهدها إنسان؛ حين أخرج شيطان من مجنون أعمى وأخرس، وجعله يتكلم ويبصر (متى12: 22)، لكنهم طلبوا منه أن يصنع آية ومعجزة معهم قائلين:«يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً» (متى12: 38)!! وهنا كشف المسيح التواء قلوبهم، وأن المشكلة في عدم إيمانهم هم، وليس في عدم قدرته هو، فرفض أن يصنع آية أمامهم، ووبَّخ لؤم والتواء قلوبهم «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ» (متى12: 38).
عزيزي القارئ، إلهنا مستقيمٌ، وسيظل مستقيمًا. فعلينا أن نراجع أنفسنا إن تسرَّب نفاق لحياتنا، يجعل أي مصلحة معنوية أو مادية لنا تُزاحم مجد الله وحقه فينا. وعلينا أن نَحذر أيضًا وجود أي التواء في حياتنا، يجعلنا نتهم الله الصالح ظلمًا، ونستذنبه هو لنتبرأ نحن، وندَّعي أن طرقه وخططه وقرارته في حياتنا غير مستقيمة، والحقيقة أن العيب فينا، وقلوبنا هي التي ليست مستقيمة أمامه. فعلينا أن نمتحن قلوبنا لتكون “دوغري” أمام إلهنا “الدوغري”!!
من الأزل إنت يا رب بشخصك ووصاياك وأحكامك مستقيمة
ولا بتنخدع بحجج البشر، ولا بأفكارهم وأعذارهم اللئيمة
ولا ف يوم توافق على نفاق أو التواء
ولا بيتضحك عليك بكلام مدح وإطراء
علمني أكون مستقيم زيك، وأعيش أفكارك وخططك العظيمة
وطهَّر قلبي من أي نفاق أو التواء، ورجَّعه لحالته السليمة