قد تقرأها على زجاج متجر وأنت ذاهب إليه، تلاحظ أضواءه الخافتة، و“زبائنه” وهي منصرفة، تفطن على أنه قارب على الإغلاق، ويسهل عليك الاستنتاج: شطَّبنا!!
أو قد تسمعها من موظف ساخر تقصده في خدمة لك، يرفض توسلاتك ويخيّب تطلعاتك، وبعد حوار وفير، يرد بشكل مثير: شطَّبنا يا بيه!!
كلمة منتشرة تحمل الكثير من المعاني، ليس فقط عندما يفنى المعروض وتنتهي البضائع وتضمحل الخدمات، ولكن حين تصف وضعًا روحيًا ونفسيًا، يمكن أن نعيشه في وقت ما، فنشتاق من جديد لمن يملانا وينهي حالة “تشطيبنا”.
“شطَّبنا” والحالة!
اختبار صعب، ذلك الذي يجتازه المؤمن في بعض أوقات حياته، حين يشعر أن منابعه قد جفَّت، وطاقته النفسية قد فرغت، وهو أمر طبيعي، فالواقع العملي يؤكِّد أن حياتنا الروحية، لا تسير فقط في مرتفعات الشكر والتسبيح، لكنها قد تهبط أحيانًا إلى وديان الفراغ والخواء. وللأسف، فبدلاً من أن نجاهر بحالتنا هذه كما هي، وأن نعترف أننا “شطَّبنا” في بعض المراحل، وأننا نحتاج إلى إعادة الملء من جديد؛ فإننا نُصِرّ على أن تسير حياتنا بلا قوة، وتستمر خدماتنا بلا تأثير، وكأننا نشبه الماكينة القديمة، التي يفرغ منها الزيت، ويتأفف صاحبها أن ينظفها ويملأها، فتبدأ في الدوران على مضض، وتحتك تروسها الفارغة بالحديد، فنتصنَّع التعزية ونخفي سوء حالتنا، ونتحرَّج من أن نعترف بأننا “شطَّبنا”.
ولكن من يتابع حياة رجال الله المتَّصلين به، والمستخدَمين منه، يعرف أن هذه الحالة واردة وطبيعية بشكل كبير، فها هو حزقيا يعلن أنه “شطَّب” قوة، وقال «لأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا قُوَّةٌ أَمَامَ هذَا الْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ الآتِي عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا نَعْمَلُ وَلكِنْ نَحْوَكَ أَعْيُنُنَا» (2أخ20: 12). وها هم المؤمنون المجربون، يعلنون أنهم “شطَّبوا” حكمة وحيلة للتصرف، فهم «يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ» (مز107: 27). وها هو بولس الخادم النشيط، يعلن أنه “شطب” تفاؤل وأمل كما أعلن «أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا» (2كو1: 8). فكما أننا أحيانًا روحيًا ونفسيًا نكون “شطَّبنا”، لكن المطمئن أننا لسنا وحدنا الذين “شطَّبنا”!!
“شطَّبنا” والمطلوب!
وعلى قدر صعوبة هذه الحالة، وما يتبعها من أحاسيس داخلية، ومحاربات شيطانية، إلا أن ما يزيد الأمر تعقيدًا، هو أن المؤمن وهو في حالة “التشطيب” هذه، يكون المطلوب منه كثيرًا، سواء في العمل أو الخدمة أو الأسرة، رغم أنه في حالة فراغ نفسي داخلي، ويحتاج إعادة تجديد لكيانه، وهذا ما لا يقدِّره الآخرون؛ فالخادم المسؤول عن مخدوميه (وخصوصًا لو كانوا شباب)، سيطالبونه بالمزيد من الطاقة النفسية، وإظهار الابتسامة الضرورية رغم أنه غير قادر على هذا، والزوجة التي تعاني من حالة استهلاك نفسي، مطلوب منها أن تظل بنفس القدر من العطاء لزوجها ولأسرتها، دون أن يهتم أحد بالسؤال عن حالتها. فالمطلوب يظل كما هو، رغم أن الإنسان نفسه ليس كما هو!!
وهنا أتذكر حادثتين ربما توصِّفان لنا هذا الأمر؛ الحادثة الأولى حين أراد فرعون أن يذل شعب إسرائيل في أرضه، وأن ينتقم منهم بعد أن طالبه موسى بإخراجهم من مصر، فأمر عبيده قائلاً «لاَ تَعُودُوا تُعْطُونَ الشَّعْبَ تِبْنًا لِصُنْعِ اللِّبْنِ كَأَمْسِ وَأَوَّلَ مِنْ أَمْسِ. لِيَذْهَبُوا هُمْ وَيَجْمَعُوا تِبْنًا لأَنْفُسِهِمْ. وَمِقْدَارَ اللِّبْنِ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَهُ أَمْسِ، وَأَوَّلَ مِنْ أَمْسِ تَجْعَلُونَ عَلَيْهِمْ. لاَ تَنْقُصُوا مِنْهُ» (خر5: 7، 8). أما الحادثة الثانية، كانت في العهد الجديد، حين تعرَّض التلاميذ لموقف محرج، ولإلحاح أكثر من 20 ألف إنسان جائع، يحتاجون إلى طعام عاجل، فقال أحدهم للمسيح «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلكِنْ مَا هذَا لِمِثْلِ هؤُلاَءِ؟» (يو6: 6). وما بين احتياج الشعب للطوب، وما بين الخبز والسمك المطلوب، فإن لسان حال الفريقين أننا “شطَّبنا”.
ولكن لو صحَّت المقارنة، فإن المطلوب منا في هذه الأيام، أكبر بكثير من مجرد احتياج مادي أو جسدي، فالاحتياج الروحي الأهم، يطاردنا في كل مكان، فكم من مُلحد يبحث بسؤاله عن إجابة، وكم من متألَّم يبحث بتجربته عن تعزية، وكم من تائه يطمع في أن يجد من يرشده، وللأسف مع هول المطلوب من المؤمنين والمؤمنات، من إجابات وتعزيات وابتسامات، فأن أغلبنا يرد على المحتاجين والمحتاجات بأننا: “شطَّبنا”!!
“شطَّبنا” والملء!
لكن ما يعزي القلب، وينقله من حالة الفراغ الصعبة، و“التشطيب” المنتشر في حياتنا، هو أننا نتعامل مع شخص المسيح الكامل، الذي نرنم له: فيك ما نرجو وأكثر، وهو فعلاً كذلك «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ» (كو1: 19)؛ صحيح أن الملء المقصود هنا، هو ملء اللاهوت الذي تجسَّم في شخص المسيح، لكن من ناحية أخرى فمن كان هو ملء اللاهوت، جدير به أن يكون هو الملء الروحي والنفسي لنا، مهما كان احتياجنا أو المطلوب منا، وبالتالي فنحن صحيح فارغين و“مشطَّبين”، ولكن لنا المسيح بكل ملئه، فيا لنا مِن محظوظين.
وهذا الملء لا ينعكس على حالتنا الروحية فقط، ولكن على طاقتنا النفسية أيضًا، كما صلى بولس للمؤمنين في رومية «وَلْيَمْلأْكُمْ إِلهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَانِ، لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (رو15 :13)، وأيضًا ينعكس على نظرتنا لاحتياجاتنا المادية اليومية، فنختبر «فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.» (في4: 19)، وبالتالي فالمسيح - الملء الحقيقي - كفيل أن يرفع نفسياتنا إن انحنت، وأن يشحن طاقتنا لو نفدت، ووقتما شعرنا أننا فارغين، و“مشطّبين”، علينا أن ننهل من المصدر الباقي لنا إلى أبد الآبدين.
عزيزي القارئ، ليتنا نعترف بحالتنا كما هي أمام الرب، وألا نعتاد الخدمة بدونه، أو اتخاذ أي قرار من وراء ظهره، فنحن فعلاً بدونه لا نقدر أن نفعل شيئًا (يو15: 5)، وليتنا أيضًا نتصل به شخصيًا، ليس فقط عَبر الفضائيات والاجتماعات (مع أنها وسائل رائعة)، ولكن عبر الاختلاء الفردي مع كلمته وهمساته، ووقتها سيتم شحننا يوميًا منه، وسيكون المتوفر داخلنا، أكبر من المطلوب خارجنا، وستغيب عن حياتنا كلمة “شطَّبنا”.
حالتنا معروفة قدَّامك، والفراغ بس اللي معانا
والمطلوب منَّا مهول، والناس فينا عشمانه
وبان “تشطيبنا”، وكترت كلمة “مفيش”
والحية ما بتصدَّق، والحرب ما بتنتهيش
واللي في ايدينا للناس، للأسف ما يكفيش
محتاجين لك من جديد تنضفنا، ومن ملئك تملانا
ولا يوم نقولك شطَّبنا، وتنفجر الينابيع اللي جوانا