في ٢٨ مارس ٢٠١٨ هبَّت عاصفة ترابية شديدة حجبت الرؤيا ألزمت الناس منازلها، لا خروج إلا إذا كان الأمر ضروريـًا بل شديد الأهمية لا يمكن تأجيله. والعاصفة الترابية مزعجة، فهي تحجب الرؤيا وتسبِّب ضيق التنفس، بسبب تعب في الرئة أو الجيوب الأنفية. ولكن هذا ينقلنا إلى أمر أكثر أهمية وخطورة وهو عاصفة الحياة. فالحياة مملوءة بالعواصف والعفرة، وعاصفة الحياة أشد خطورة وقسوة من العاصفة الترابية. ولكي نتعامل بحرص شديد وبحكمة معها لنأخذ القصة المثيرة الواردة في سفر القضاة ٦ عن شاب اسمه جدعون هبَّت عليه أربع عواصف ترابية في شتى مجالات الحياة كالآتي:
أولاً عاصفة شخصية: يقول عن نفسه «أنا الأصغر في بيت أبي» (قضاة٦: ١٥). لم يكن البِكْر وبالتالي ليس له امتياز البكورية، مُهمَل في نظر نفسه وفي نظر أسرته، مما ولَّد عنده الشعور بصغر النفس واليأس والإحباط والضعف، وما أقساه من شعور يجعل الإنسان في حالة تراجع، لا يستطيع الإقبال على الحياة.
ثانيـًا عاصفة أسرية: كان من عائلة محتقرة فهو يقول عن نفسه «عشيرتي هي الذُلَّى في منسى» (قضاة١٦: ١٥). فقد نشأ في أسرة فقيرة الحال وعلى المستوى الاجتماعي محتَقَرة، عشيرة أبيعزر لم يُسمع عن أحد منهم قام ببطولات أو عمل عملاً عظيمـًا أو كان أحد أجداده من مشاهير بني إسرائيل؛ فهي عشيرة نكرة ومحتقرة من بقية عشائر سبط منسىٍ.
ثالثـًا عاصفة قَبَليـَّة: فسبط (أو قبيلة) منسى كان محتقرًا بالنسبة لباقي الأسباط ولا سيما من سبط إفرايم؛ فمنذ أن وضع يعقوب يده اليمنى على إفرايم وقَدَّمه على منسى، رغم أن منسى هو بكر يوسف (تكوين٤٨: ١٤)، أصبح سبط منسى محتَقَرًا في عيني نفسه وعيني إفرايم وعيون باقي الأسباط. وهذا ما أثبته التاريخ بعد ذلك سواء في قصة جدعون أو يفتاح الجلعادي (قضاة١٠).
رابعـًا عاصفة قومية: تعرضت بلاده لخطر مس أمنها القومي؛ فقد هجم المديانيون عليها واحتلوها واستعبدوهم سبع سنين، وأكلوا قُوتهم اليومي وهاجر كثيرون من الشعب كلاجئين في المغاير وفي كهوف الجبال، «وَإِذَا زَرَعَ إِسْرَائِيلُ، كَانَ يَصْعَدُ الْمِدْيَانِيُّونَ وَالْعَمَالِقَةُ وَبَنُو الْمَشْرِقِ، يَصْعَدُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ وَيُتْلِفُونَ غَلَّةَ الأَرْضِ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى غَزَّةَ، وَلاَ يَتْرُكُونَ لإِسْرَائِيلَ قُوتَ الْحَيَاةِ، وَلاَ غَنَمًا وَلاَ بَقَرًا وَلاَ حَمِيرًا. لأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْعَدُونَ بِمَوَاشِيهِمْ وَخِيَامِهِمْ وَيَجِيئُونَ كَالْجَرَادِ فِي الْكَثْرَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ وَلِجِمَالِهِمْ عَدَدٌ، وَدَخَلُوا الأَرْضَ لِكَيْ يُخْرِبُوهَا» (قضاة٦: ٣).
ماذا يعمل هذا الشاب إزاء كل هذه العواصف التي عصفت بحياته من جميع الجوانب، لدرجة أنه سكن في بقعة اسمها «عفـرة» (قضاة٦: ١٦)، وكأنه يقول ليس لي سكن أفضل من هذه البقعة. فهو لم يتمتع بالسكن في حبرون كجده إبراهيم، أو في قصر فرعون كجده يوسف، فلا بلوطات حبرون ولا قصر فرعون كان يحلم بأي منهما، ولا ملاذ له إلا عفرة. ولكن هذا الشاب لم يقبع في منزله رغم العواصف الترابية من كل الجهات، فمن المعتاد أن يقبع الإنسان في بيته أثناء العواصف الترابية أو التقلبات المناخية ويخضع لنصائح المسؤولين من هيئة الأرصاد الجوية. ولكن هذا الشاب التقي جدعون، الذي معنى اسمه “حاطب أو قاطع بشدة” - وهذا هو التحدي - فقد تحدى هذا الشاب التقي كل الظروف الطبيعية والسياسية والأسرية والشخصية، فماذا فعل؟
لقد تحدَّى الأعداء والمخاوف منهم. فقد كان شعوره باحتياج إخوته إلى الحنطة (القمح) أقوى من شعوره بالخوف من الأعداء. وثقته في إلهه أقوى من ثقته بنفسه. ونزل لكي يفصل القمح عن التبن في المعصرة ليهربه من المديانيين ليطعم الجياع ويشبع جوعهم رغم كثرة عدد الأعداء. ووسط كل هذه التحديات إذ بصوت من خلفه يناديه بتحية تشجيعية. وهكذا دار الحوار الشيق بين جدعون وبين ملاك الرب (قضاة٦: ١٩).
الملاك: «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ»
جدعون متسائلاً باندهاش: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هذِهِ؟ وَأَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا قَائِلِينَ: أَلَمْ يُصْعِدْنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ؟ وَالآنَ قَدْ رَفَضَنَا الرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ».
الملاك: «اذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟»
جدعون: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي».
ملاك الرب: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَسَتَضْرِبُ الْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُل وَاحِدٍ».
جدعون: «إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَاصْنَعْ لِي عَلاَمَةً أَنَّكَ أَنْتَ تُكَلِّمُنِي. لاَ تَبْرَحْ مِنْ ههُنَا حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي وَأَضَعَهَا أَمَامَكَ».
ملاك الرب: «إِنِّي أَبْقَى حَتَّى تَرْجعَ».
«فَدَخَلَ جِدْعُونُ وَعَمِلَ جَدْيَ مِعْزًى وَإِيفَةَ دَقِيق فَطِيرًا... وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ... وَقَدَّمَهَا. فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ. وَذَهَبَ مَلاَكُ الرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ».
وهنا ارتبك جدعون قائلاً: «آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ! لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَجْهًا لِوَجْهٍ».
فقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «السَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ».
فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ «يَهْوَهَ شَلُومَ... في عَفْرَةِ الأَبِيعَزَرِيِّينَ».
وهنا الروعة. ففي وسط عفرة يبني مذبحـًا ويدعو اسمه “يهوه شلوم” أي “الرب سلامي”.
ففي وسط ظروف الحياة المتنوعة وصروفها المتباينة وضغطاتها الشديدة ومرتفعاتها ومنخفضاتها، وسط عواصف الحياة بكل أتربتها التي تحجب الرؤيا، ماذا نفعل؟ كما يقول كاتب المزمور إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟ (مزمور١١).
الإجابة نسرع إلى الرب، وندخل إلى محضره، فنتمتع بالسلام. وهناك نسمي المذبح يهوه شلوم “الله سلامي”. وهذا ما فعله رجال الله على مر العصور، والتي عبَّر عنها حبقوق النبي بقصيدته الشهيرة عندما عصفت به الحياة من كل جانب قائلاً: «فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي».
عزيزي القارئ إذا كنت تسكن في عفرة، فهناك إله السلام في عفرة؛ فلا تفشل ولا تيأس بل تشدد بالرب، والرب معك.