جلست لأكتب شيئًا لأحبائي الشباب قُراء مجلتنا الغالية “نحو الهدف” فوجدتني أكتب هذا العنوان. لا أعرف ما الذي جعلني أكتبه، ربما لأننا في ختام عام وبداية آخر، الإنسان في مثل هذه الأوقات يفكر كثيرًا في الأولويات والأهداف التي يعيش لأجلها. وربما لأنني لاحظت في السنوات الأخيرة عدم وضوح الأولويات في حياتنا، أو بمعنى آخر أن الأمور السطحية والتي بلا قيمة أصبحت لها الأولوية في حياتنا أكثر من أمور أخرى من المفترض أن تكون لها الأهمية والأولوية في الحياة. وأيًا كان الدافع الحقيقي لكتابة مثل هذا العنوان، أشعر أنها رسالة خاصة لكثيرين يقرأون هذه السطور.
ليست بالضرورة الأولوية معناها الأمور التي تفعلها باستمرار، ولا هي الأمور التي تفعلها بروتينية؛ الأمور التي تقع في أولويات حياتك هي التي تشغل تفكيرك أغلب الوقت، لا أبالغ إن قلت لك أنك تفكر فيها بدون سابق إنذار. تأخذ قراراتك بناءًا عليها. يمكنك بهذه الطريقة أن تُحدد ببساطة ما هي أولويات حياتك.
دعني أفكَّر معك بطريقة أكثر واقعية وأقول لك: ما الذي يشغل تفكيرك أغلب الوقت؟ ما الذي تستمتع وأنت تفعله، أو حتى تقرأ عنه، وتبحث فيه؟ ما هو الأمر الذي تترك لأجله كل شيء، بلا تردد أو ندم؟ هذا هو الأمر الأهم بالنسبة لك. قابلت من يضعون العمل كأولوية في حياتهم؛ أحدهم كتب على صفحته الخاصة بمواقع التواصل الإجتماعي أنه يكون في أسعد لحظات حياته أثناء وجوده في العمل! وسألت نفسي وقتها: تُرى ما هو شعور زوجته وأولاده وهم يقرأون عبارة كهذه؟ خصوصًا لو كانت زوجته تعتبره أهم شخص في حياتها! قال آخر وهو يحكي عن محاولاته ليصل للشهرة إنه كان يتمنى أن يحدث له أي شيء مهما كان في سبيل أن يصل للشهرة، حتى ولو وصل الأمر لأن يصبح ضريرًا كطه حسين، فلا مشكلة لديه أن يعيش بقية حياته أعمى لكن مشهورًا!!
العمل، الشهرة، المال، السلطة، الممتلكات، الشخصية الجذابة؛ كل هذه الأمور وغيرها من الأولويات التي تستولى على قلوب بني البشر، فتجعلهم يسابقون الزمن، ويُصارعون الأشخاص والظروف لكي يصلوا لأهدافهم. ومع الأسف، الكثيرون منهم تتحطم آمالهم عند القمة، بعد أن يبذلوا كل الطاقة والجهد، ويتكبدوا التضحيات والصعوبات في سبيل الوصول لما يحلمون به؛ ثم يجدون الأمر لم يكن بهذه الأهمية، والنتيجة لم تكن كما يتوقعون. فلا الشهرة أدخلت السعادة إلى قلوبهم، ولا المناصب عالجت أمراض القلب الدفينة، ولا الأموال أغنت نفوسهم بالراحة، ولا النجاح في العمل ملأ حياتهم بالبهجة والسلام. والمحزن جدًا في الأمر، أن مثل هؤلاء إما أنهم يزدادون توحشًا في الطريق الذي سلكوه لكي يثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم لم يكونوا مخطئين، أو ينهاروا وتتحطم نفوسهم وتلتهمهم أمواج من اليأس والإحباط.
أعزائي الشباب، لنتعلم أن نضع أولوياتنا بما يتناسب مع طبيعتنا البشرية التي تحتاج طوال الوقت للخالق العظيم، الذي خلقنا في احتياج دائم للعلاقة معه. فكل محاولة للهروب من العلاقة الصحيحة مع الله تملؤنا بالفراغ أكثر، فنجري خلف الأوهام معتقدين أننا في حاجة إلى شيء أكبر مما نحن فيه. شرح لنا سليمان الحكيم هذا الأمر بالقول: «كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ» (جامعة١: ٧). فلا شبع ولا ارتواء من مياه العالم حتى وإن كانت تبدو جميلة، وبراقة. يروي سليمان اختباره الشخصي في هذا الشأن فيقول: «وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا. لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ، لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي. وَهذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي. ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ» (جامعة٢: ١٠، ١١). طوبى لمن يتعلم من سليمان الحكيم، فلا يسقط في نفس أخطائه ويتخذ من شهوة عينه، أو طلبات نفسه الشريرة أمرًا يضعه في مقدمة أولوياته. طوبى لمن يعرف نهايات الأمور ممن سبقوه، ولا يسير في نفس الطريق بل يتخذ من شهادتهم درسًا للحياة. طوبى لمن يتعلم من الغني أن السعادة ليست في كثرة الأموال فقد مضى الشاب الغني حزينًا من أمام المسيح رغم ما لديه من أموال (متى١٩: ٢٢).
طوبى لمن يتعلم من شاول الطرسوسي أن السعادة لا تأتي من السلطة، وامتلاك القوة، ولا حتى من مجرد التدين الظاهري المقيت (فيلبي٣: ٧). عرَّف بولس الرسول الأولوية في حياته: «وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي٣: ١٣، ١٤). علاقة بولس بالمسيح كانت هي الأولوية في حياته. علاقته بخالقه ومخلصه كانت أهم عنده من نفسه. كل ما يشغل اهتمامات بولس كان المسيح وخدمته. كل ما كان يتحكم في قراراته وتنقلاته واحتماله للمشقات كان ينبع من محبته للمسيح، وما يؤل لمجد اسمه وحده. بهذه الطريقة عاش الرسول بولس، وكل رجال الله الأتقياء. لم يهتموا بما عندهم، ولم يشغلوا بالهم بما ينقصهم. كل ما كان يشغلهم أن يعيشوا لله، متكلين عليه، سائرين معه دون غيره.
دعني اسألك في نهاية حديثنا: ما الذي يشغل تفكيرك كل يوم؟ هل تدور في دائرة الذات ومشغوليتك بنفسك طوال اليوم؟ هل كل ما يشغلك نظرة الناس لك، وآرائهم فيك، واهتمامهم بك أو انشغالهم عنك؟ هل كل ما يشغلك ماذا تملك، وما الذي ينقصك، وما الذي تحتاجه في الأيام القادمة لتكون أكثر غنى؟ لا نقول إن الاهتمام بالعمل خطأ، إنما كون العمل هو الأولوية الأولى في الحياة فهذا هو الخطأ. لا نعترض على اهتمامك بدراستك ونجاحك، إنما نعترض على وضع هذا الأمر أولاً قبل علاقتك بالله. فهذا الترتيب هو الفشل بعينه.
أترك معك مبدأً رائعًا وضعه المسيح يومًا لكي يضبط به ترتيب الأولويات، كل من عاش بهذا المبدأ تعلم جيدًا كيف يضع أولويات حياته. قال المسيح يومًا عن نفسه: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يوحنا٤: ٣٤). ضع هذه الكلمات شعارًا لحياتك، حتى تعرف كيف تُرتب أولوياتك.