متجهمًا، على غير المعتاد، ابتدأ صديقي حديثه معي بالقول: “أنا مش عارف ربنا مستقصدني ليه؟”
صمت من المفاجأة للحظات، ثم استدركت طالبًا التوضيح.
“حاسس إنه واقف لي في كل متعتي، اللي بيبسطني ما بيجيش. حاسس إنه مش عايزني اتمتع”.
استوقفته وسألته: “إنت بتقول "كل"؟ يعني الله ما بيديكش حاجة تبسطك خالص؟!”
رد بسرعة: “لا مش قصدي كده طبعًا.. بيديني.. بس في المقابل، في حاجات كثير عايزها، وهتفرحني لو حصلت، وبطلبها منه لكن ما بتجيش”.
دار بيننا حديث مطوَّل، للفائدة أشاركك عزيزي القارئ ملخصه.
الله والمتعة
اقرأ معي من الكتاب المقدس: «اللهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ» (١تيموثاوس٦: ١٧). «الإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي... يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا» (أعمال١٤: ١٥-١٧). واضح إذن أن الله يحب أن يعطينا وأن يرانا متمتعين.
ثم فكِّر معي قليلاً في خلق آدم؛ لقد خلقه الله آخر مخلوقاته حتى يفتح عينيه فيرى كل شيء حسنًا. ووضعه في أروع بقعة وأعطاه أن يأكل من شجرها، إلا واحدة، كما ومنحه سلطانًا. فمن اللحظة الأولى لوجود الإنسان والله يعطيه بغنى.
كذلك، تذكَّر معي أيضًا إبراهيم، وهو واحد من المقربين لله والذين وجدوا متعتهم فيه، لقد كان بلغة اليوم “ملياردير”.
ثم إن اختباراتنا نحن، إن أنصفنا الحكم، تؤكِّد أن الله كريم ويمنحنا بسخاء.
المتعة والمنفعة
وأنا صغير كنت أحب أن ألعب بأعواد الثقاب (الكبريت) وكانت أمي تمنعني. ورغبت في قيادة سيارة أبي، فرفض حتى أكبر. ولن أنسى أنني كنت أُمنَع من أكل الحلوى اللذيذة حتى آكل من طعام الغذاء المفيد.
لما كنت طفلاً كانت هذه الأمور تزعجني، وكنت أفهمها على أنها مضايقة وعدم محبة من أبوَيَّ. لما كبرت رأيتها من منظور آخر، لقد كانت منفعتي بالنسبة لهما أهم من متعتي: فمنعا ما هو مُضِر، وأجَّلا ما لم يكن وقته، وأعطيا الأولوية لما هو أنفع. متيقن اليوم أن كل هذا كان من محبتهما لي.
الحقيقة أن الله كأب صالح يهمه متعتنا، لكن يهمه بالأولى منفعتنا. فحياتنا يغمرها الكثير من المنح، لكن في حكمته أيضًا قد نتعرض للمنع من بعض الرغبات، وقد يؤجل بعضها الآخر، أو يعدِّله. دعنا نفهم هذا الأمر «أَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ (يدربه – يهذبه)... فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟... لأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين١٢: ٦-١١)، فبالصبر نقبل خطة الله لنا. هذا ما فهمه موسى فقرر ألا «يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ... لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ» (عبرانيين١١: ٢٤-٢٦).
إن متعتنا، حتى البريء منها، وقتية. أما منفعتنا فهي الأبقى؛ تبقى طول العمر ومنها ما يبقى للأبدية أيضًا.
فأيهما ترى دليل محبة الله لنا: متعتنا أم فائدتنا؟!
لكن، هل يعني هذا أن علاقتنا بالله تعني التخلي عن كل أنواع المتعة؟ أو ألا أستمتع بما يستمتع به غيري ممن هم من عمري؟
بالتأكيد لا.
أفكار عن المتعة
ونحن نتكلم عن المتعة لا بد وأن نلقي نظرة على ما يلي، حتى يمكننا أن نحكم على الأمور بنظرة سليمة.
أنواعها: ليس القصد هنا تصنيفها من حيث صحتها من خطئها، براءتها من شرِّها؛ فمن المفروغ منه أن نرفض الشر بكل صوره. لكننا هنا نفارق بينها من حيث كونها:
جسدية محسوسة وملموسة: مثل أكلة شهية أو راحة بعد تعب.
نفسية تتعامل مع المشاعر: مثل صحبة جميلة أو مدح أو جائزة على عمل حسن.
عقلية وروحية: كأن أدرك أن لي ميراثًا ثمينًا سيبقى معي. أو أن أدرك ما لي في المسيح، وما سيبقى للأبد.
إن حددنا نوع المتعة سنعرف لأي مدى نضع قلوبنا عليها، وأي تكلفة نقبل أن نتكلفها مقابلها، وما أولويتها.
الحدود: لا بد وأن يكون للمتعة حدود، شأنها شأن كل ما نريد له النجاح. ولأننا سبق وتحدثنا بالتفصيل عن هذا الموضوع في عدد سابق (مقالة “٤ لا” عدد ١٤٢) أكتفي بوضعها في عناوين. فيجب أن المتعة تكون: ١) ليست ضد الوصايا، ٢) لا تستعبد، ٣) لا تعوق هدف الحياة، ٤) لا تتعدى حقوق الغير
الترفيه صناعة: أمر جدير بالالتفات، أن مصادر المتعة اليوم، خاصة لجيل الشباب، تندرج تحت بند “الترفيه”؛ كمواقع التواصل الاجتماعي وأجهزة المحمول والألعاب الإلكترونية والأفلام والميديا عمومًا. ولا يجب أن ننسى للحظة أن هذه كلها تندرج تحت كلمة “صناعة الترفيه”، تعتمد على الربح من خلال إقناع مستخدميها بالبقاء أطول وقت عليها، ولا تتورع في استخدام حتى الوهم في ذلك. وإن تأنى الرب وعشنا سيكون لنا حديث مفصل عن ذلك. إلى ذلك الوقت أترك معك نصيحة بسيطة: لا تدع أحد يسرق وقتك، الذي هو عمرك، ولا تسمح لأحد بأن يجعلك تعيش الوهم.
لماذا لا أتمتع بأمور الله؟
سؤال جدير بالبحث. دعني باختصار أضع أمامك هذا الأسباب:
لا أدرك: تخيل شخصًا له رصيد كبير في البنك ولا يدري ذلك! سيعيش على الفقر رغم غناه. وتخيل ابنًا لغني ذي أملاك لا يدرك ما له من امتيازات بفضل أبيه! سيتمسك بالتوافه وهو يملك الكثير. هكذا نحن حين لا ندرك ما لنا في الشركة مع الله!!
مقاييس خاطئة: يملينا المجتمع الذي نعيش فيه مقاييس زائفة للمتعة بينما هو يرزح في التعاسة والاكتئاب. قد يقنعك أن تجد المتعة في مشاهدات أو نكات أو علاقات، قد يقيس المتعة بعدد متابعيك أو مدح الناس أو “اللايكات”؛ ويبقى القلب في عطش يبحث في المكان الخاطئ عما لا يمكن أن نجده هناك. عليك أن تعيد تعريف معايير متعتك لأشياء ذات قيمة، كتأثيرك ونفعك للآخرين وسلامك الداخلي وتقدمك ونضوجك.
إفراط في المتع الأخرى: كما أن “الرمرمة” “تسد النفس” عن الأكل المفيد، هكذا الإكثار من المتع الوقتية قليلة القيمة، يحرمنا من البحث عن المتعة الروحية وبالتالي من الشبع بالعلاقة مع إلهنا العظيم.
في النهاية أتركك مع كلمات المختبِر في مزمور ٦٣ «يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ... بِشَفَتَيْ الابْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي... اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ».