كانت تعاليم المسيح دائمًا تخاطب العقل، وتجعل المستمع له مبهورًا، مذهولاً بما يسمع. كما أن كل ما قاله المسيح كان يؤكده بمنطق واضح يُدهش العقل. ومن بين هذه التعاليم العظيمة، الرائعة التي قدمها المسيح: ما قاله في عظة الجبل. وقد أعلن فيها قائلاً: «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا». (متى ٦: ١٩ – ٢١)

بدأ المسيح هنا بكلمات حازمة حاسمة؛ لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض. لم يقُل: أرجو ألا تكنزوا، أو: من الأفضل ألا تكنزوا. بل قال آمرًا: لا تكنزوا. وفي هذا نرى تحذيرًا واضحًا، وتأكيدًا على وجوبية الأمر وخطورته.

وكما ذكرت في بداية حديثي معك أن المسيح لم يكن يتكلم دون سبب أو منطق؛ فهو يعطي أسبابًا منطقية لما يقوله. وقد أوضح الرب أسبابًا غاية في المنطقية بخصوص ما يقوله، مؤكدًا على الحقيقة التي نعرفها جميعًا: أن كنوز الأرض إن كانت محاصيل وأكل وشُرب فقد يُفسدها السوس، وإن كانت معادن فربما يعلوها الصدأ، وإن كانت ذهبًا وأموالاً ومجوهرات فقد يسرقها يومًا اللصوص!

وقتها لن تكون الخسارة ليست مادية فقط، بل هي خسارة تصيب كل جوانب الحياة؛ فالإنسان يخسر وقته وأيامه التي أضاعها في ادخار هذه الكنوز، ويخسر نفسه وجسده من جراء هذه الحياة الصعبة؛ كم من رجال أعمال أصيبوا بأمراض نفسية وعضوية بسبب ضغوط العمل، أو بسبب الخسارة المادية التي تعرضوا لها. كما يخسر الإنسان أولاده وبيته بسبب انشغاله الدائم في الجمع والتكويم. ثم في النهاية ربما يخسر حياته الأبدية بسبب اهتماماته بالأمور الأرضية الفانية دون عمل حساب للأبدية. فالأمر جد خطير!

تكلم المسيح بمنطق آخر رائع في هذا الجزء قائلاً: «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا». يا لها من حقيقة في غاية الأهمية؛ فحيث تضع كنزك يتجه قلبك، وحيث تجمع مدخراتك ينصب جُل اهتمامك؛ فقد بذلت حياتك ووقتك والكثير من مجهودك وطاقتك في جمع وادخار هذه الكنوز فكيف تهملها أو لا تهتم بها؟ الإنسان يضع حافظة نقوده في أكثر الأماكن أمانًا، ومن وقت لآخر يضع يده ناحيتها ليتأكد من وجودها. لاحظ كيف يكون حال الأشخاص الذين يحملون مبالغ كبيرة وهم في طريقهم للبنك لكي يودعوها هناك، يكونون في غاية الانتباه والحذر، ولا يهدؤون أو يبتسمون إلا بعد أن يطمئنوا أن المبلغ قد وضُع في حسابهم. فكم وكم من يكنزون ويدِّخرون ذهبًا، وفضة، وممتلكات لسنوات طويلة؟

من هذين الأمرين نكتشف أهمية وخطورة تعاليم المسيح في هذا الجزء؛ كنوز الأرض ربما تفسد أو تُسرق وهذا يجعلك تعيد التفكير في التعامل مع الأمر، كما أن قلبك وكل اهتمامك سيكون متجهًا نحو هذا الكنز وهذا بدوره أمرًا في غاية الخطورة؛ فربما تكتشف بعد ضياع الوقت أن اهتمامك كان سببًا في خسارة نفسك!

قد تسأل أخي الفاضل: ”إذًا ما الذي علينا أن نفعله، لكي نعيش بطريقة صحيحة وباتزان يضمن لنا حياة سعيدة؟“ أقول لك أخي العزيز إن المسيح أجاب عن هذا السؤال بكلمة واحدة قائلاً: «لاَ تَهْتَمُّوا» (متى ٦: ٢٥) والكلمة هنا معناها: لا تقلقوا. لقد وضع المسيح أمام عيونهم السبب الرئيسي الذي يدفع الإنسان لبذل سنوات حياته وكل وقته في الادخار والجمع والتكويم؛ إنه القلق والخوف من الغد، إنه الهم الزائد بما نأكل وبما نشرب رغم أن الآب السماوي يهتم بها ويرتبها لأولاده دون الاحتياج لكل هذا التعب والخوف والقلق!

«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ. (متى ٦: ٢٥ – ٣٤)