الموقعة الرابعة
«وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ وَطُوبِيَّا وَالْعَرَبُ وَالْعَمُّونِيُّونَ وَالأَشْدُودِيُّونَ أَنَّ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ قَدْ رُمِّمَتْ وَالثُّغَرَ ابْتَدَأَتْ تُسَدُّ، غَضِبُوا جِدًّا. وَتَآمَرُوا جَمِيعُهُمْ مَعًا أَنْ يَأْتُوا وَيُحَارِبُوا أُورُشَلِيمَ وَيَعْمَلُوا بِهَا ضَرَرًا» (نحميا٤: ٧، ٨).
بدأت هذه الموقعة كمثيلاتها، «وَلَمَّا سَمِعَ...». فما أن سمع سنبلط وطوبيا بأن السور قد بُني ورُمم واتصل كله ببعضه (لكنه كان إلى نصف علوه فقط حتى ذلك الوقت)، جُنَ جنونهما، فتآمرا مع العرب والعمونيين والأشدودين ليأتوا ويثيروا انزعاجًا بالمدينة، فيوقَف العمل! وابتدأت أخبار المؤامرة تنتشر بين اليهود الساكنين بجوار الأعداء، فجاءوا ورجعوا عشرة مرات حاملين نفس الرسالة لنحميا، محذرين إياه بمباغتة العدو أثناء انهماكه بالعمل، فماذا فعل نحميا في هذه الموقعة؟
أولًا لقد ابتدأ بالصلاة، لكنه لم يُصلِّ وحده، بل قاد رجاله معه في الصلاة. ولم يصلِّ فقط، بل قام ليفعل ما توجَّب عليه فعله.
فثانيًا، «أَقَمْنَا حُرَّاسًا ضِدَّهُمْ نَهَارًا وَلَيْلاً»، لكن أتعلم أين وضع الحراسة؟ «فَأَوْقَفْتُ الشَّعْبَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَوْضِعِ وَرَاءَ السُّورِ وَعَلَى الْقِمَمِ، بِسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَقِسِيِّهِمْ» (نحميا٤: ١٣). وتأتي هذه العبارة في إحدى الترجمات “At the most vulnerable places”. لقد وضع نحميا الحراسة في أكثر الأماكن ضعفًا وهشاشية، إذ علم أنها هي الأكثر عُرضة لمباغتة العدو! وترى ماذا تعني تلك الأماكن الضعيفة؟
معلوم أن نقاط الضعف فينا تختلف من شخص لآخر. فيشير نحميا لهذه الأماكن بأكثر تفصيل: «مِنْ أَسْفَلِ الْمَوْضِعِ وَرَاءَ السُّورِ وَعَلَى الْقِمَمِ».
أَسْفَلِ الْمَوْضِعِ: أي الأماكن المنخفضة التي نشعر فيها بقلتّنا وصغر أنفسنا، فنيأس إذ يعتلّ كياننا من عيوبنا. وكمّ مرَّة سدّد عدونا الشرس أقسى لكماته الموجعة في أكثر الأماكن حساسية وإيلامًا!
وَرَاءَ السُّورِ: المناطق الخفية من حياتنا - حِينَمَا نَتَوَارَى بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ - وأيضًا حين يسمح لنا الله بالاختباء - وَرَاءَ السُّورِ - بينما نرغب في العيش تحت الأضواء المُبهرة!
وَعَلَى الْقِمَمِ: وتعني المواقع المُشمسة أو الأماكن المفتوحة. وربما نتعجب من كون هذه المنطقة الأخيرة بالذات منطقة ضعيفة أيضًا! فهل هناك أخطار تهدّدنا في الأجواء المشمسة بينما نعتلي القمم؟ بكل تأكيد. بل ربما تكون القمم هي أكثر الأماكن خطرًا علينا. لقد رأى الرب خطر الارتفاع - بفرط الإعلانات - مُحدقًا ببولس، فأعطاه شوكة في الجسد لئلا يرتفع!
فنحن عُرضة لأن يختل اتزاننا في ركوبنا عندما نعتلي القمم فنمشي في زهو وخيلاء إذ ترتفع قلوبنا، فنسقط. وإن لم تقنع بذلك يا صديقي، فاذهب في زيارة خاطفة لعزيَّا الملك في بَيْتِ الْمَرَضِ. قِف من بعيد وانظره! الذي «لَمَّا تَشَدَّدَ ارْتَفَعَ قَلْبُهُ إِلَى الْهَلاَكِ وَخَانَ الرَّبَّ إِلهَهُ» (٢أخبار٢٦: ١٦)
ولأجل هذا كله أقام نحميا حراسًا مستعدين - نهارًا وليلاً بلا انقطاع - يحملون أسلحة متعددة تحسبًا لهجوم العدو المُباغت في هذه المناطق بالذات، حراسًا لا يخلعون ثيابهم، بل يذهبون بسلاحهم حتى إلى الماء.
هكذا يشير استمرار الحراسة ليلاً ونهارًا إلى حياة السهر في الصلاة، الأمر الذي نحتاجه بشدة في هذه الأيام. «عَلَى أَسْوَارِكِ يَا أُورُشَلِيمُ أَقَمْتُ حُرَّاسًا لاَ يَسْكُتُونَ كُلَّ النَّهَارِ وَكُلَّ اللَّيْلِ عَلَى الدَّوَامِ. يَا ذَاكِرِي الرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا، وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ» (إشعياء٦٢: ٦، ٧).
وثالثًا: أوصاهم نحميا بينما هم يعملون أو يحرسون ألا يغيب عن ذهنهم هذان الأمران العظيمان: عظمة سيدهم، وسمو الغرض الذي يحاربون لأجله. «وَنَظَرْتُ وَقُمْتُ وَقُلْتُ لِلْعُظَمَاءِ وَالْوُلاَةِ وَلِبَقِيَّةِ الشَّعْبِ: لاَ تَخَافُوهُمْ، بَلِ اذْكُرُوا السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الْمَرْهُوبَ، وَحَارِبُوا مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَنِسَائِكُمْ وَبُيُوتِكُمْ» (نحميا٤: ١٤). وهو ما فعله بولس بعد أن أوصى تلميذه تيموثاوس: «فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ»، عاد ليذكَّره بأن يضع قائده الغالب نصب عينيه فلا يكلّ أو يخور في نفسه، «اُذْكُرْ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ» (٢تيموثاوس٢: ٣، ٨). والذي طالما ثبَّتّ عينيك عليه، فلسوف يقودك الله في موكب نصرته في المسيح كل حين.
هكذا أعاد نحميا تركيز أنظار الشعب على هذا السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الْمَرْهُوبَ الذي أعانهم قبلاً على هؤلاء الأعداء الثلاثة بالذات (الْعَرَبُ وَالْعَمُّونِيُّونَ وَالأَشْدُودِيُّونَ): «وَسَاعَدَهُ اللهُ عَلَى الْعَرَبِ...» (٢أخبار٢٦: ٧). «وَأَخَذَ دَاوُدُ تَاجَ مَلِكِهِمْ (العمونيون) عَنْ رَأْسِهِ...» (١أخبار٢٠: ٢). «وَبَكَّرَ الأَشْدُودِيُّونَ فِي الْغَدِ وَإِذَا بِدَاجُونَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ أَمَامَ تَابُوتِ الرَّبِّ...» (١صموئيل ٥: ٣، ٤).
ثم ذكَّرهم نحميا بالغرض الذي لأجله يحاربون «وَحَارِبُوا مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِكُمْ وَبَنِيكُمْ، وَبَنَاتِكُمْ، وَنِسَائِكُمْ، وَبُيُوتِكُمْ»،
وألا يستحق هؤلاء أن نقوم ونحارب من أجلهم، فنكون سِتْرًا لَهُمْ مِنْ وَجْهِ الْمُخَرِّبِ؟
رابعًا: قام نحميا بعمل بعض التعديلات. «وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ كَانَ نِصْفُ غِلْمَانِي يَشْتَغِلُونَ فِي الْعَمَلِ، وَنِصْفُهُمْ يُمْسِكُونَ الرِّمَاحَ وَالأَتْرَاسَ وَالْقِسِيَّ وَالدُّرُوعَ»، وكل منهم عرف تمامًا ما توجَّب عليه عمله، فلم يتدخل أحد في عمل الآخر. «الْبَانُونَ عَلَى السُّورِ بَنَوْا وَحَامِلُو الأَحْمَالِ حَمَلُوا. بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ، وَبِالأُخْرَى يَمْسِكُونَ السِّلاَحَ. وَكَانَ الْبَانُونَ يَبْنُونَ، وَسَيْفُ كُلُّ وَاحِدٍ مَرْبُوطٌ عَلَى جَنْبِهِ» (نحميا٤: ١٦-١٨).
ثم يذكر هذه العبارة الرائعة: «وَالرُّؤَسَاءُ (أوقفوا أنفسهم) وَرَاءَ كُلِّ بَيْتِ يَهُوذَا»، لقد ارتضى هؤلاء الشرفاء أن يبقوا في الخلف كجنود احتياط لحماية ظهور العاملين في الصفوف الأمامية، حتى إذا ضرب البوق يقوموا بالقتال، الأمر الذي لم يحدث! فلم يضرب البوق ولا مرة! «الرَّبُّ أَبْطَلَ مُؤَامَرَةَ الأُمَمِ. لاَشَى أَفْكَارَ الشُّعُوبِ» (مزمور٣٣: ١٠).
فهل معنى ذلك أنهم كانوا بلا أهمية؟ بالعكس، لقد ظلوا في مواقعهم حتى النهاية. ولولا وقوفهم هكذا، ما كان الشعب تشجع لإكمال العمل! «فَكُنَّا نَحْنُ نَعْمَلُ الْعَمَلَ، وَكَانَ نِصْفُهُمْ يَمْسِكُونَ الرِّمَاحَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى ظُهُورِ النُّجُومِ» (نحميا٤: ٢١).
أعزائي، دعونا لا ننسى أن هناك شرفاء اختاروا مواقعهم خلف ظهور إخوتهم، لا للتكلم عليهم وانتقادهم من ورائهم، بالعكس، فلربما دوَّت حناجر هؤلاء الشرفاء بصيحات التشجيع من الخلف فحفزّت عزيمة إخوتهم العاملين في الأمام.
وهكذا بالرغم من شراسة هذه الموقعة إلا أن الله أعطاهم النصرة على الأعداء والقوة لاستكمال البناء، «وأَبْطَلَ اللهُ مَشُورَتَهُمْ، رَجَعْنَا كُلُّنَا إِلَى السُّورِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى شُغْلِهِ».