الموقعة السادسة
«وَكَمِلَ السُّورُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَيْلُولَ، فِي اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا سَمِعَ كُلُّ أَعْدَائِنَا وَرَأَى جَمِيعُ الأُمَمِ الَّذِينَ حَوَالَيْنَا، سَقَطُوا كَثِيرًا فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ إِلهِنَا عُمِلَ هذَا الْعَمَلُ» (نحميا٦: ١٥- ١٦).
لا تبدأ هذه الموقعة كسابقاتها بالقول: «وَلَمَّا سَمِعَ› فقط، بل أيضًا «وَرَأَى... وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ إِلهِنَا عُمِلَ هذَا الْعَمَل!» ويا لها من حقيقة رائعة أسكتت صوت العدو الذي طالما عيَّرهم قائلاً: «مَا هذَا الأَمْرُ الَّذِي أَنْتُمْ عَامِلُونَ؟... مَاذَا يَعْمَلُ الْيَهُودُ الضُّعَفَاءُ؟» (نحميا٢: ١٩؛ ٤: ٢).
إنها الحقيقة التي ملأت قلب نحميا منذ البداية، فصمد أمام كل المقاومات إذ تأكًّد أن عمل الله لا يمكن أن يُنتَقَض! فكانت أولى كلماته التي واجه بها الأعداء: «إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي» (نحميا٢: ٢٠). وهكذا بظهور يد الله في المشهد، انكمش العدو إلى حجمه الحقيقي، وتحوَّل من احتقاره لليهود إلى احتقارٍ لنفسه، «سَقَطُوا كَثِيرًا فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ!».
وكنّا نظن أن المعركة ستنتهي عند تبدُّل الحال؛ لكن هذا الأمر لم يحدث! فلم يستسلم العدو، بل بدأ بشن موقعة جديدة مثيرة. فلقد كان سقوط العدو كسقوط الطائر الذبيح الذي يثير ضجة لبعض الوقت وهو ينازع دقاته الأخيرة قبل أن يخمد تمامًا! وما أبشع ما عمله العدو في هذه الموقعة! فلقد عمل من خلال “عُظَمَاءُ يَهُوذَا”!
«وَأَيْضًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَكْثَرَ عُظَمَاءُ يَهُوذَا تَوَارُدَ رَسَائِلِهِمْ عَلَى طُوبِيَّا، وَمِنْ عِنْدِ طُوبِيَّا أَتَتِ الرَّسَائِلُ إِلَيْهِمْ. لأَنَّ كَثِيرِينَ فِي يَهُوذَا كَانُوا أَصْحَابَ حِلْفٍ لَهُ، لأَنَّهُ صِهْرُ شَكَنْيَا بْنِ آرَحَ، وَيَهُوحَانَانُ ابْنُهُ أَخَذَ بِنْتَ مَشُلاَّمَ بْنِ بَرَخْيَا. وَكَانُوا أَيْضًا يُخْبِرُونَ أَمَامِي بِحَسَنَاتِهِ، وَكَانُوا يُبَلِّغُونَ كَلاَمِي إِلَيْهِ. وَأَرْسَلَ طُوبِيَّا رَسَائِلَ لِيُخَوِّفَنِي» (نحميا٦: ١٧-١٩). لقد استخدم العدو سلالة النسل الملكي الذين وضعوا أعناقهم - بكامل إرادتهم - تحت نير العبد العموني، وعملوا لأجله إذ كانوا أصحاب حِلف له! وبسبب انحراف هؤلاء العظماء وعدم اكتراثهم لوصايا الله، ولسبب عدم تكرسهم لعمل سيدهم، سَهُلَ على العدو العمل من خلالهم!
ومن الواضح أننا جميعًا نعمل، لكن السؤال: “لصالح مَن نعمل؟” هل لحساب سيدنا، أم لصالح العدو! وفي غيبوبتهم الروحية، كسر عظماء يهوذا ثلاث وصايا صريحة. فأولاً، انصهروا في روابط جسدية مع الأعداء! الأمر الذي كان فخًا وشركًا لسليمان (نحميا١٣: ٢٦)، وكان سببًا في انحدار الملك التقي يهوشافاط ونسله إذ صاهر آخاب وبيته. ولا يُخفَى علينا أن هذه هي واحدة من مخططات العدو القديمة، «وَصَاهِرُونَا. تُعْطُونَنَا بَنَاتِكُمْ، وَتَأْخُذُونَ لَكُمْ بَنَاتِنَا» (تكوين٣٤: ٩) ولذلك أعطى الله الوصية لشعبه: «وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بِنْتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنْتَهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى …» (تثنية٧: ٣، ٤)
وثانيًا، كانوا يأخذون الربا من إخوتهم ويستعبدونهم. (نحميا٥: ١-١٣) بينما الوصية صريحة: «إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلاَ تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا» (خروج٢٢: ٢٥).
وثالثًا، كانوا يشتغلون يوم السبت (نحميا١٣: ١٧)، متجاهلين الوصية: «وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ» (خروج٢٠: ١٠).
ترى ماذا فعل نحميا في هذه الموقعة المُحزِنة وهو يرى سلوك إخوته الذين ضحى بقصر الملك لأجلهم، وحمل ركام الحطام عنهم؟ هل ساورته الشكوك بأن يكون هؤلاء العظماء على حق؟! وإن لا، فهل حابى بالوجوه لكونهم عظماء يهوذا؟ إطلاقًا، فلقد عمل نحميا ما يخشى الكثيرون فعله، إذ واجه هؤلاء العظماء. «فَشَاوَرْتُ قَلْبِي فِيَّ، وَبَكَّتُّ الْعُظَمَاءَ وَالْوُلاَةَ… وَقُلْتُ: لَيْسَ حَسَنًا الأَمْرُ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. أَمَا تَسِيرُونَ بِخَوْفِ إِلهِنَا بِسَبَبِ تَعْيِيرِ الأُمَمِ أَعْدَائِنَا؟» «فَخَاصَمْتُ عُظَمَاءَ يَهُوذَا وَقُلْتُ لَهُمْ: «مَا هذَا الأَمْرُ الْقَبِيحُ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ وَتُدَنِّسُونَ يَوْمَ السَّبْتِ؟» (نحميا٥: ٧-٩؛ ١٣: ١٧، ١٨)
ولأنه كان قدوة بحياته، استجاب لتبكيته الآخرون «هكَذَا نَفْعَلُ كَمَا تَقُولُ» (نحميا٥: ١٤-١٩)، لم يَدَعْ نحميا سلوك “عظماء يهوذا” يُشكّل ضميره وقانون سلوكه، فلم يكن لديه سوى مقياسٍ واحدٍ يقس عليه كل الأمور، وهو حق كلمة الله. وهكذا ردَّ نحميا في هذه الموقعة بأمرين هما: “الحراسة والانتساب”.
فأولاُ، شدَّد الحراسة على المدينة للتأكد من هوية كل داخل إليها. وكذا أوصاهم بتشديد حراسة كل واحد مقابل بيته. «وَقُلْتُ لَهُمَا: لاَ تُفْتَحْ أَبْوَابُ أُورُشَلِيمَ حَتَّى تَحْمَى الشَّمْسُ. وَمَا دَامُوا وُقُوفًا فَلْيُغْلِقُوا الْمَصَارِيعَ وَيُقْفِلُوهَا. وَأُقِيمَ حِرَاسَاتٌ مِنْ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِرَاسَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مُقَابِلَ بَيْتِهِ» (نحميا ٧: ٣). وثانيًا، «فَأَلْهَمَنِي إِلهِي أَنْ أَجْمَعَ الْعُظَمَاءَ وَالْوُلاَةَ وَالشَّعْبَ لأَجْلِ الانْتِسَابِ» (نحميا٧: ٥). وهو تأكيد منه على الخطوة السابقة. فكم من تجارب وقع فيها شعب الله بسبب اللفيف الذي في وسطهم!
والخلاصة: كانت خطورة هذه الموقعة في العبارة “عُظَمَاءُ يَهُوذَا The Nobles of Judah”. وآه عندما يستخدم العدو هؤلاء، فتأتي بسببهم التجارب والعثرات! فلقد كانت هذه هي الضربة القاضية التي أَودَت بحياة رجل الله الذي من يهوذا. ذلك عندما كذبَ عليه النبي الشيخ، بينما كان كل ما يلزمه لينتصر هو تذكُر حقيقة بديهية واحدة وهي أن “الله لا يُغيّر ما خرج من شفتيه”! (١ملوك ١٣). عندما يأتيك عُظَمَاءُ يَهُوذَا، أو نَبِيٌّ شَيْخٌ برسائل لا تتفق وكلمة الله، مَن تُصدّق؟ «لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا» (رومية٣: ٤)
لقد أخذ نحميا حذره من هذا الأمر إذ تَمسَّك بحق كلمة الله، فضمن النصرة في هذه الموقعة. وبالمثل نحن، كل ما علينا فعله لكشف الزيف هو أن نعرف الحق ونطيعه، لا أن نضيع وقتًا في التعرف على أشكال الزيف، فهي لا حصر لها! «بِخَطَوَاتِهِ اسْتَمْسَكَتْ رِجْلِي. حَفِظْتُ طَرِيقَهُ وَلَمْ أَحِدْ. مِنْ وَصِيَّةِ شَفَتَيْهِ لَمْ أَبْرَحْ. أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَتِي ذَخَرْتُ كَلاَمَ فِيهِ» (أيوب٢٣: ١١، ١٢).